يعقب الإنساء؛ بل قيل له: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)؛ ألا ترى إلى قوله: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)؛ فثبت أنهم كانوا على خوف ووجل عن ارتكاب ما يسلب به الوحي وينسى.
أو يكون الاستثناء راجعا إلى إنساء حكمه، وهو أن ينسخ حكمه حتى يترك فيصير كالمنسي؛ كقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)، أي: جعلهم كالشيء المنسي بما آيسهم من رحمته، لا أن يكون هناك حقيقة نسيان، فكذلك ما نسخ حكمه وترك، صار كالمنسي، وإن لم يكن فيه حقيقة نسيان؛ فيكون النسيان منصرفا إلى حكم التلاوة، لا إلى عينها.
أو يكون - عليه السلام - يذهب خاطره عن بعض ما يوحى إليه؛ إذا اشتغل فكره في أشياء أخر؛ فيصير الذي ذهب عن وهمه كأنه نسيه وإن كان يعود ذلك إليه عند إحضاره ذهنه، كما ترى المرء في الشاهد يذهب عن وهمه جميع ما في فاتحة الكتاب من الحروف إذا أعمل رؤيته في أشياء أخر؛ حتى يصير كالناسي لها وإنْ كان يعود إلى تذكرها إذا رام أن يقرأها.
فعلى هذه التأويلات يستقيم أن يوجه إليه الاستثناء، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى)، أي: ما يجهر بعض لبعض من الخلائق، أو ما يسر بعض عن بعض.
أو يعلم ما تطلع عليه الملائكة من أعمالهم، ويعلم ما يعزب عنهم، فعلمه فيما أسر العبد كعلمه فيما أظهر وجهر به؛ فذكرهم هذا؛ ليكونوا متيقظين؛ فلا يخافون، ولا يجهرون إلا بالذي يحق عليهم؛ إذ اللَّه - تعالى - حفيظ عليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) قالوا: ونسيرك للخير ولعمل أهل الجنة، فسميت أعمال الخير: يسرى؛ لأنها تعقب ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) ظاهر هذا يقتضي ألا يذكر إلا من نفعته الذكرى، ولكن تخصيص الحكم في حال بوصف لا يوجب قطع ذلك الحكم فيما