الحمد - أيضا - بالإحسان إلى مملكته، فإذا ترك نصرهم وهو ممكَّن من ذلك، فقد ترك إحسانه إليهم؛ فصار به غير ممدوح ولا محمود، واللَّه - تعالى - استحق العز والحمد بذاته لا بأحد من خلائقه؛ فلم يكن في إذلال أوليائه ما يوجب النقص في وصف الحمد، ولا ما يوجب قصورا في العز.
والثاني: أن الدنيا وما فيها أنشئت للإهلاك، ولعل الإهلاك بما ذكر أيسر عليهم من هلاكهم حتف أنفهم، وكان في ذلك النوع من الهلاك نيل درجة الشهداء، وهي التي ذكرها اللَّه - تعالى - في قوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. . .) الآية، ولا ينال تلك الدرجة بموتهم حتف أنفهم، فهذا أبلغ نصرا منه إياهم.
ثم للجزاء والعقاب دار أخرى فيها يظهر تعزيز الأولياء وقمع الأعداء؛ فلم يكن في ترك النصر في الدنيا ما يوجب وهنا ولا ذلا، وأما ملوك الدنيا إذا تركوا نصرهم وقت ملكهم لأوليائهم، لم يتوقع منهم النصر بعد ذلك؛ إذ ليست في أيديهم إلا المنافع الحاضرة؛ لذلك لحقتهم المذمة بترك النصر، واللَّه أعلم.
ثم ليس في إهلاك أُولَئِكَ القوم الذين آمنوا واقتدارهم عليهم إيهام أنهم كانوا على الحق والصواب، وأن المؤمنين كانوا على الخطأ؛ لأن الإهلاك إنما يصير آية إذا كان على خلاف المعتاد، وإهلاكهم لم يكن كذلك؛ لأن عددهم كان كثيرا، وكان في المؤمنين قلة، وإهلاك الكثير للقليل غير مستبعد؛ بل هو أمر معتاد، وغلبة الفئة القليلة الفئة الكثيرة هي التي تخرج من حد الاعتياد؛ فيكون فيها آية: أن الفئة القليلة على الحق والأخرى على الباطل، وذلك نحو غلبة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر بمن معه من المسلمين مع قلة أعدادهم وضعفهم في أنفسهم، وكثرة أتباع الكفرة وقوتهم وجلادتهم في أنفسهم، والله أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ)، أي: لم يكن من المؤمنين بمكانهم جرم لينتقم منهم بالإحراق سوى أن آمنوا باللَّه تعالى.
وقيل: ما عابوا عليهم، وما أنكروا منهم سوى أن آمنوا باللَّه تعالى، وفي هذا تبيين سفههم وعتوهم؛ لأنهم علموا أن ما لهم من النعم كلها من اللَّه تعالى، وكان الذي يحق