ثم اختلفوا بعد هذا:
فمنهم: من يحمله على التحقيق؛ فيزعم أن النفخة الأولى يهلك بها الخلق، والنفخة الثانية يحيا بها الخلق.
ومنهم من ذكر أن النفخات ثلاث: فالنفخة الأولى؛ للتفزيع والتهويل؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ. . .) الآية، والنفخة الثانية يهلك بها الخلق بقوله: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، والنفخة الثالثة يحيا بها الخلق بقوله: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ).
ومنهم من ذكر أن هذا ليس على تحقيق النفخ؛ بل على التمثيل، فمثل به إما لخفة البعث والإحياء على اللَّه - تعالى - وسهولته كخفة النفخ على النافخ.
أو مثل به؛ لسرعته؛ كما قال تعالى: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ).
وقالوا: الرجفة: هي الزلزلة، والتحرك، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي الزلزلة الأخرى.
ثم إن كان القسم على إثبات البعث، ففيها ذكر إشارة إلى أحوال البعث وأفعالها، وإن كان موجفة، على قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) فكأنهم سألوا: كيف تكون القلوب في ذلك اليوم؟ فقال: تكون واجفة، والواجفة: الخائفة الوجلة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) أي: ذليلة.
ووجه تخصيص الأبصار والقلوب - واللَّه أعلم -: هو أنه لا يتهيأ لأحد استعمال قلبه وبصره، بل يحدث للقلوب فِكَرٌ وبدوات لا يمكنه أن يدفع عنها الفكر، وكذلك هذا في البصر؛ فيخبر أن ما نزل بهم من الخوف والهيبة يمنع القلوب والأبصار عن عملها؛ فلا تنظر إلا إلى الداعي، ولا يحدث للقلوب فكر، بل تكون الأفئدة هواء، لا تقر؛ لشدة ما حل بها من الخوف؛ إذ المرء إذا أحزنه أمر فهو يعمل أنواعا من الحيل ويوقع