وإذا تفكروا في هذا علموا أن حكمته ليست على ما ينتهي إليه علم البشر ولا قوته تقتصر على الحد الذي تنتهي إليه قوى البشر، والذي كان يحملهم على إنكار البعث بعد الإماتة تقديرهم الأمور على قوى أنفسهم وتسويتها بعقولهم، فإذا تدبروا في ابتداء أحوالهم ورأوا من لطائف التدبير وعجائب الحكمة، علموا أن الأمر ليس كما قالوا وقدروا؛ فيدعوهم ذلك إلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل وتخبرهم من أمر البعث وغيره.
وجائز أن يكون ذكرهم ابتداء أحوالهم ونشوءهم، وإلى ما يصيرون إليه؛ ليدعوا التكبر على دين اللَّه تعالى وينقادوا له بالإجابة، ولا يستكبروا على أحد من خلائقه؛ لأنهم في ابتداء أحوالهم كانوا نطفة يستقذرها الخلائق، ثم علقة ومضغة، ويصيرون في منتهى الأمر جيفة قذرة؛ ومن كان هذا وصفه فأنى يليق به التكبر على أحد؟!
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا): تكفتهم، أي: تضمهم وتجمعهم في حياتهم وبعد مماتهم، فالانضمام إليها في حال حياتهم ما جعل لهم من المساكن فيها والبيوت، وجعل لهم بعد مماتهم مقابر يدفنون فيها، أو جعل متقلبهم ومثواهم في ظهورها في حياتهم، وجعل بطنها مأوى لهم بعد وفاتهم، وجعل ظهرها بساطا لهم؛ ليسلكوا فيها سبلا فجاجا؛ وقدر لهم فيها أقواتهم، فذكرهم وجوه النعم في خلقه الأرض؛ ليستأدي منهم الشكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ... (27):
الرواسي هي الجبال الثابتات في الأرض أثبتها في الأرض؛ لتقر بها، ولا تميد بأهلها؛ إذ لو مادت لم يصل أهلها إلى ما قدر لهم من المنافع، فذكرهم بذكره الجبال الرواسي عظيم نعمه عليهم؛ ليستأدي منهم الشكر.
والشامخات: هي الطوال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا):
ولولا إنزاله عليكم لم تكونوا تصلون إليه بقواكم وحيلكم، ثم أنزله من السماء إلى الأرض، ولم يخرج من حد العذوبة، ولا حل به التغير بما مسته الأرض، واختلطت به، وهذا منصرف إلى الشرب خاصة، ثم لغير العذب من المنافع ما للعذب إلا الشرب خاصة.