فإذا كان المراد يتوجه من الكلام إلى ما ذكرنا، ثم القرآن قصد به الوجهان جميعا: ضبط حروفه ونظمه، وتعرف ما أودع فيه من المعاني؛ إذ صار حجة بنظمه ولفظه، وبالمعاني المودعة فيه - فقيل: لا تعجل بتحريك اللسان كما يفعل من يريد التقاء الكلام الذي يلقى إليه؛ فإنك وإن أحوجت إلى حفظ نظمه وحروفه، فقد كفيت حفظه بدون تحريك اللسان.
وجائز أن يكون نُهي عن تحريك اللسان والمبادرة إلى حفظه قبل أن يُقضى إليه بالوحي؛ لما فيه من ترك التعظيم لمن يأتيه بالوحي، فأمر أن يصغي إليه سمعه، ويستمع إلى آخره؛ تعظيما للذي أتاه بالوحي، وتوقيرا له.
ثم هذه الآية تنقض على الباطنية قولهم؛ لأن من قولهم: إن القرآن لم ينزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مؤلفا منظوما؛ بل أنزل على قلبه كالخيال، فصوره بقلبه، وألفه بلسانه؛ فأتى بتأليف، عجز الآخرون عن أن يؤلفوا مثله.
ونحن نقول: بل أنزل هذا القرآن مؤلفا منظوما على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن التأليف من فعله؛ والذي يدل على صحة مقالتنا قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)؛ لأن التأليف لو كان من فعله - عليه السلام - لكان لا يوجد منه تحريك اللسان وقتما تزل عليه؛ لأنه إذا كان كالخيال فهو يحتاج إلى أن يصوره في قلبه، ثم يصل إلى التأليف بعد التصوير، وتتأتى له العبارة باللسان، وإنما يقع التحريك من مؤلَّف منظوم؛ ثبت أنه أُنزل هذا مؤلف منظوم.
والثاني: أنه قال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، فهذه الآية نفت طعن أُولَئِكَ الكفرة الذين زعموا أن هذا ليس بقرآن، بل إنما علمه فلان، وكان لسان ذلك البشر أعجميا، وهذا القرآن عربي؛ فكيف يستقيم أن يعلمه ذلك البشر، ولسانه غير هذا اللسان، ولو كان هذا القرآن وقتما أنزل كالخيال، لكان ذلك الطعن قائما؛ لأنه كان يؤلفه، ويجمعه باللسان العربي، وإن علم بالأعجمية لما قدر أن يؤلفه، وينظمه بعد أن كان خيالا باللسان العربي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17):