وقيل: سألوا أن يؤتوا ببراءة بغير عمل.
ولكن لا يجب قطع الأمر على واحد من هذه التأويلات، بل يقال بها على جهة الإمكان والاحتمال؛ لأن هَؤُلَاءِ المفسرين لم يشاهدوا أُولَئِكَ القوم الذين صدرت منهم هذه الإرادة؛ ليخبروهم ماذا أرادوا به؟ حتى يثبت ما ذكروا من القصة والأخبار، ولا تواترت الأخبار من عند ذي الحُجَّة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنهم سألوه ذلك؛ لذلك لم يستقم قطع الأمر على ما ذكروا.
وجائز أن تكون هذه الإرادة تحققت في بعض الكفرة وهم الرؤساء منهم والأكابر، لا أن أراد كلٌّ في ذات نفسه أن يؤتى صحفا منشرة.
والإرادة هاهنا عبارة عن الطلب، ثم طلبهم ما ذكر يتوجه إلى أوجه ثلاثة:
أحدها: أن يكون كل واحد من عظمائهم ود أن يكون هو المخصوص بإنزال الكتاب عليه؛ كما قال في آية أخرى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)؛ فيكون في هذا إظهار استكبارهم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، على جهة التعنت والعناد؛ ليصير ذلك آية لهم في تحقيق رسالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كما قال اللَّه تعالى حكاية عنهم: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. . .) إلى قوله: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ)، ففي هذه الآية إبانة أنهم كانوا يطلبون إنزال الكتاب عليهم؛ ليتقرر لديهم رسالة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكان ذلك على جهة التعنت والعناد؛ وإلا لو تفكروا في حاله أداهم ذلك إلى العلم برسالته من غير أن يحتاجوا إلى تثبيت رسالته بكتاب ينزل عليهم، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكونوا رأوا أكابرهم أحق بالرسالة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأولى بإنزال الكتاب عليهم؛ لما رأوهم أفضل من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ألا ترى إلى قوله: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقال في آية أخرى: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)، فأرادوا أن يؤتوا صحفا منشرة لهذا المعنى؛ إذ هم أولى أن يخصوا بهذه الفضيلة.
وإنما ذكرنا هذه التأويلات في هذه الآية، لأن هذه المعاني التي ذكرناها قد ظهرت منهم بمتلو القرآن، والتأويلات التي ذكرها أهل التفسير لا يتهيأ تثبيتها من جهة الكتاب ولا من جهة الإخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فصارت هذه التأويلات أمكن وأملك بالآية من غيرها، واللَّه أعلم.