فمن قرأ (مُبَيِّنَةٍ) بالخفض فمعناه: أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها المرء، ونظر تبين له: أنها فاحشة.
ومن قرأ (مُبَيَّنَةٍ) بالفتح، عني به: أنها مبينة بالبراهين والحجج.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ).
الحدود: الموانع والنواهي، لا يحل مجاوزتها، ومن ذلك سمي الحداد: حدادًا؛ لأنه يمنع تحديده كل أنواع أمتعته أن تجاوز حدها الذي جعل لها، والحد في الحقيقة هو: النهاية التي يُنتهى إليها فلا يجاوز، وإذا كان كذلك كان الخيار إلى صاحب التأويل: فإن شاء حمله على الحد بين الطاعة والمعصية أو بين الحلال والحرام؛ حيث ذكر في هذه الآية أنواعا من النهي؛ فسمي ذلك كله: حدودًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
أي: ضر نفسه، ويجوز أن يكون المعنى منه، أي: إن جاوز هذا الحد الذي جعله لله تعالى، فقد وضع نفسه مكانا لم يضعه فيه ربه، والظلم في الحقيقة وضع الشيء في غير موضعه.
والتأويل الآخر: أن من جاوز موانع اللَّه ونواهيه، فقد ظلم نفسه؛ دل هذا على أن منافع هذه النواهي ومضارها لا ترجع إلى اللَّه، بل ترجع نفس الممتحنين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
أي: لا يطلق؛ فإنه إذا طلق لا يدري لعل اللَّه يحدث بعد ذلك ندامة على ما سبق من فعله أو رغبة فيها؛ فيكون فيه دلالة النهي عن نفس الطلاق، وقد بينا كراهة نفس الطلاق في الحكمة في أنه ليس من نوع ما يتقرب به؛ فيكون فيه الزيادة في القربة ولا مما يستمتع به فيكون فيه زيادة في الاستمتاع، بل المقصود منه التأديب والمَخْلَصُ، وفي الواحدة كفاية عما زاد عليها؛ فكان في هذه الآية دلالة النهي عن نفس الطلاق، وعن الزيادة على الواحدة واللَّه أعلم.