وقوله: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، أي: ما هن لهم كأمهاتهم؛ لأنه تعالى قال: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) على سبيل الرد لما قالوه، وقوله: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ)، أي: قالوا لنسائهم: " أنتن علينا كظهور أمهاتنا ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) يكون ردًّا لقول من قالوا لنسائهم: " إنهن أمهاتنا " لا لمن قالوا: " إنهن كأُمهاتنا " و " كظهور أُمهاتنا "، فيحتمل بذلك القول تبعا لقوله: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، أي: كأمهاتهم ولكن الإشكال أنه إذا صار تقدير الآية ما هن كأمهاتهم، فما معنى قوله: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)؛ لأنهم كانوا يدعون التشبيه بالأمهات، واللَّه تعالى نفى ما ادعوا من التشبيه؛ فما معنى البيان حقيقة بقولهم: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)، وهم يعرفون ذلك ولا ينكرونه، ولا يدعون في نسائهم أنهن أمهاتهم حقيقة؛ حتى يرد عليهم دعواهم. بقوله: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)؟
وإشكال آخر: أنه قال: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا)، وظاهر هذا القول منهم ليس من الزور، ولا المنكر؛ إذ ليس في قولهم: " ظهرك كظهر أمي " أو " أنت عليَّ كظهر أمي " أو " كأمي " إلا التشبيه وهي لعلها تشبهها، فإن ظهرها كظهر أمه؛ في الشبه والخلقة والتشبيه لا يقتضي العموم، فما معنى تسميته تشبيه المرأة بالأم: منكرا وزورا.
وإشكال آخر: أنه جعل الأمهات اللائي ولدنهم أمهات لهم؛ فإنه قال في نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رضي اللَّه عنهن: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، وقال فيمن يرضعن أولاد الغير: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) وإن لم يلدنهم.
فنقول - وباللَّه التوفيق -: إنهم كانوا يريدون أن يوجبوا حقوقا وأحكاما ما كانت في أمهاتهم، لم يكن لهم إيجاب ذلك؛ فإنهم كانوا يشبهون النساء بالأمهات، ولم يريدوا بذلك من حيث الصورة، ولكن يريدون بذلك التشبيه في الحرمة، وحرمة النساء في الأصل غير حرمة الأمهات؛ فإن الأم حرام الاستمتاع بها لكن يباح للرجل أن يدخل على أمه، ويخدمها، ويسافر بها، ويباح النظر، والمس، والإركاب، والإنزال، والخلوة بها، والمرأة متى حرمت بالطلاق الثلاث، أو بالبينونة، لا يثبت شيء من هذه الحقوق، والمشابهة بين الشيئين -إن كانت- لا تقتضي مشابهتها من كل وجه، ولكن تقتضي المساواة بينهما في وجه من الوجوه على الكمال - فإن الذات في الشاهد إذا قام به العلم، يسمى: عالما، واللَّه تعالى يسمى: عالمًا ولا يوجب التشبيه؛ لانعدام التماثل بين العلمين، والتساوي من كل وجه، فلم يعد تشابها تعالى اللَّه عن ذلك، وتشبيههم النساء بأمهاتهم أرادوا أن يجعلوا حرمة نسائهم كحرمة أمهاتهم، ويوجبون فيهن حقوقا وأحكاما