قيل: كيف وقع بينهم من العداوة والبغضاء ما وقع وسبب الجمع قائم، حتى استحل بعضهم قتال بعض من نحو الخوارج والمعتزلة؟
قيل: إنما وقع ذلك فيما بينهم وإن كان سبب الجمع قائما؛ لما كانت تلك الألفة والرأفة بلطف من اللَّه تعالى، وقد زال ذلك اللطف وارتفع، وحدث بينهم ما حدث.
أو نقول: إن الخوارج قد أحدثوا من أنفسهم أشياء حتى سموا المسلمين كفرة بما ارتكبوا الكبائر، حتى نصبوا القتال والحرب معهم، وكذلك المعتزلة سموا أصحاب الكبائر: فسقة وفجرة ومنزلتهم بين الكفر والإيمان ومن سمى آخر: كافرا أو فاسقا، فلا شك أن يحدث بينهما عداوة وتباغض، فما حدث بيننا وبينهم من العداوة بتسميتهم إيانا فسقة وفجرة وكفرة بارتكاب الكبائر، وإن كان السبب الذي جمعهم قائما عندنا، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ. . .) الآية، ذكر في القصة أن في الفترة التي كانت بين عيسى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - كان من بني إسرائيل ملوك غيروا التوراة والإنجيل، وبقي منهم أناس مؤمنون بعيسى - عليه السلام - ويعملون بما في الكتب، فهم هَؤُلَاءِ الملوك أن يقتلوهم لإبائهم اتباعهم والعود إلى مذهبهم، فخرجوا من بينهم، فترهبوا؛ رجاء أن يتخلصوا منهم، فذلك (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)، أي: فرضنا عليهم تلك الرهبانية، ولم نأمرهم بها، ولكن فرض عليهم وكتب في الجملة أن يطلبوا رضوان اللَّه فابتدعوا تلك الرهبانية؛ رجاء أن يكون فيها رضوان اللَّه، واللَّه أعلم.
قال: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، أخبر أنهم ابتدعوا شيئا لم يكتب عليهم، ثم ذكر أنهم لم يرعوه حق رعايته، ذمهم، لتركهم الرعاية لما ابتدعوه، ففيه دلالة أن من افتتح أمرًا لم يفرض عليه من صلاة أو صوم أو نحو ذلك، ثم لم يقم بوفائه وإتمامه، لحقه ذم كما لحق هَؤُلَاءِ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أخبر أن الذين آمنوا وثبتوا على الإيمان أنه يؤتيهم أجرهم، أي يوجب لهم أجرهم، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، أي: كافرون.
كذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وكثير منهم كافرون).
وذكر أن بعضا بعدما ترهبوا اشتد عليهم الترهب؛ فعادوا، ورجعوا، ودخلوا في دين