ثم اختلف في تأويل قوله: (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) على الوجهين اللذين ذكرناهما.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ): بمواقع نزول القرآن نجومًا؛ دليله: ما ذكر على أثره: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)
والثاني: (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) النجوم المعروفة؛ على ما قَالَ بَعْضُهُمْ.
ثم إن كان المراد منه: الكواكب، فالقسم بها يكون على وجوه.
أحدها: لعظم موقع النجوم ومحلها في القلوب، وجليل قدرها عند الناس حتى يجعلها بعض الملحدة مدبرة العالم.
أو لكثرة منافع الخلق بها من معرفة الطرق بها والسبل، ومعرفة كثرة الأنواء والمياه، ومعرفة الأوقات والأزمنة، وغيرها مما يكثر ذكرها.
أو (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أي: مساقطها، وفي ذلك إخبار وإنباء عن شدة طاعة النجوم وتسخيره إياها للخلق؛ حيث تملك قطع مسيرة خمسمائة يوم في ليلة واحدة ما لا يتوهم قطع ذلك من سواها من ذوي الأرواح والأجنحة التي هي أسرع لقطع المسافات والوصول إلى مقاصدها، واللَّه أعلم.
ثم قال أهل التأويل بأجمعهم بأن القسم بها من اللَّه تعالى.
وجائز أن يكون القسم من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن أضافه إلى نفسه؛ تعلميا منه لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقسم برب هذه الأشياء؛ وكذلك تعليما لغيره من الرسل القسم برب هذه الأشياء؛ إذ لا تنازع بينهم وبين اللَّه تعالى؛ ليقسم وإنما وضع القسم لتأكيد الخبر عند الإنكار والتنازع، ولكن التنازع فيما بينهم وبين الرسل، وكذلك ما ذكر: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ)، ليس من اللَّه تعالى، ولكن من الرسول؛ إذ لا يحتمل أن يكون الرب - عَزَّ وَجَلَّ - هو المقسم، ويقول: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ)؛ فظاهره أن يكون الرسول هو المقسم بها، فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
ومن الناس من قال: إن الأقسام التي جرى ذكرها في القرآن بالأشياء التي ذكرها لو لم يكن القسم بها، لكانت تلك الأشياء تؤكد وتوجب القسم، وتؤكد أن لو وقع بها القسم؛ لأن الأقسام فيه إنما جرى أكثرها في إيجاب البعث والتوحيد، وإثبات الرسالة، ونحوها، وما جرى ذكرها لو لم يكن القسم بها، لكانت توجب ما يوجب القسم؛ لأن في هذه الأشياء دلالات على البعث والتوحيد والرسالة، واللَّه الموفق.