على الأتباع والعامة؛ لما عند الناس أن لا كل أحد يقدر على إتيان السحر، فقالوا: إنهم سحرة للرسل لهذا؛ وإنما نسبوهم إلى الجنون لما أنهم خالفوا الفراعنة والأكابر الذين كانت همتهم القتل وإهلاك من خالفههم في المذهب والأمر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53).
أي: أوصى أوائلهم أواخرهم في تسميتهم الرسل - عليهم السلام -: سحرة ومجانين؛ وأن يوافق بعضهم بعضا في نسبتهم الرسل إلى السحر والجنون، أي: لم يزل الكفرة يقولون لرسلهم ذلك.
ويحتمل أن يكون ذلك على التمثيل، لا على حقيقة القول منهم؛ لما كان اجتماعهم لأجل هذا القول في كل وقت؛ فصار ذلك الاجتماع منهم كالتواصي من بعضهم لبعض، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).
يخبر أنهم لا عن جهل وشبهة قالوا: إنهم سحرة، ولكن عن طغيان، وتعدي [حد الله]- عَزَّ وَجَلَّ - والمجاوزة له؛ لأن الطاغي؛ هو المجاوز عن الحد الذي جعل له، والمتعدي عنه.
وقوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54).
قال بعض أهل التأويل: لما نزل هذا خاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضي الله عنهم - أنه ينزل بهم العذاب حتى نزل قوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
لكن عندنا يخرج قوله - تعالى -: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) على وجهين:
أحدهما: أي: تولَّ عنهم، فأعرض ولا تكافئهم بإساءتهم إليك بقولهم: إنه ساحر، وإنه مجنون؛ فإن اللَّه تعالى سيكفيهم عنك، ويجازيهم مجازاة إساءتهم.
والثاني: يأمره بالإعراض والتولي عن قوم علم اللَّه تعالى أنهم لا يؤمنون؛ يؤيسه عن - إيمانهم، ويقول: لا تشتغل بهم؛ فإنهم لا يؤمنون لك ولا يصدقونك، ولكن اشتغل بمن ترجو منه الإيمان، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون لا على حقيقة الأمر، ولكن على التخيير؛ أي: لك أن تتولى عنهم وتعرض؛ فإنك قد بلغت، وأعذرت في التبليغ والدعاء غايته، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ).
جائز أن يكون المراد من نفي الشيء إثبات مقابل ذلك الشيء وضده؛ كقوله تعالى: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، ذكر الربح، والمراد: إثبات الخسران؛ كأنه قال: