وعندنا: لا يحتمل أن يكون ما ذكر من رفع الصوت فوق صوت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والجهر بالقول له، وما ذكر من التقدم بين يدي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الأمر والنهي أن يكون الخطاب بذلك للذين صحبوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واتبعوا أمره ونهيه؛ إذ لا يحتمل منهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته ويجهروا له بالقول أو يقدموا بين يديه في أمر ولا نهي إلا عن سهو، أو غفلة، أو إذن منه بالمناظرة والمحاورة في العلم، فعند ذلك ترتفع أصواتهم؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان أجل في قلوبهم وأعظم قدرًا من أن يتجاسروا التقدم بين يديه بأمر، أو قول، أو رفع صوت، أو جهر القول له، فتكون الآية في أهل الشرك أو في أهل النفاق، واللَّه أعلم.

ثم إن كان الخطاب بذلك للذين آمنوا فهو على وجهين:

أحدهما: أن ذلك منه ابتداء محنة امتحنهم بذلك وأمرهم به من غير أن كان منهم شيء من ذلك من التقدم بين يديه، ورفع الصوت، والجهر له بالقول، ولله - تعالى - أن يمتحن ويأمر وينهى من شاء بما شاء ابتداء؛ امتحانًا منه لهم، وهو ما ذكرنا من نهي الرسل - عليهم السلام - عن الشرك والمعاصي وإن كانوا معصومين عن ذلك؛ لأن العصمة لا تمنع النهي؛ لأن العصمة إنما تكون عصمة إذا كان هناك أمر ونهي؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من النهي عن التقدم، والرفع بالصوت، والجهر بالقول، وإن لم يكن منهم شيء مما ذكر ابتداء محنة منه لهم، واللَّه أعلم.

ويحتمل أنه خاطب هَؤُلَاءِ الصحابة - رضي اللَّه عنهم - بذلك؛ ليتعظ بذلك من يشهد مجلسه من المنافقين وغيرهم من الكافرين؛ إذ كان يشهد مجلسه أهل النفاق وسائر الكفرة؛ لئلا يعاملوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمثل معاملة بعضهم بعضا، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) ذكر هذا؛ ليكونوا أبدًا [متيقظين] بين يدي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حذرين، معظمين له في كل وقت؛ لئلا يكون منهم في وقت من الأوقات ما يجري مجرى الاستخفاف به والتهاون على السهو والغفلة فيحبط ذلك أعمالهم؛ لأن هذا الصنيع برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يكفر صاحبه، ولا يكون معذورًا، وإن فعله على السهو والغفلة؛ لأن له قدرة الاحتراز، وأمكن التحذر، وإن كانوا معذورين فيما بينهم على غير التعمد والقصد، ولا مؤاخذة لهم برفع اللَّه - تعالى - المؤاخذة عنهم فيما بينهم، ولم يرفع في حق النبي - عليه أفضل الصلوات - مع أن الكل في حد جواز المؤاخذة، واللَّه أعلم.

وذكر الكرابيسي فقال: ومن حكمة الآية عند قوم حبوط الأعمال بالكبائر؛ على ما روي عن الحسن قال: أما يشعر هَؤُلَاءِ الناس أن عملا يحبط عملا، واللَّه يقول: (يَا أَيُّهَا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015