ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي: ما عرفوا اللَّه حق معرفته.
أو ما عظموه حق عظمته ما يحتمل وسع الخلق، وكذلك لم يعرفوه حق معرفته التي يحتمله وسع البشر بينهم، فأما معرفة اللَّه حق معرفته أو تعظيم اللَّه حق عظمته ما لا يحتمله وسع الخلق، وهو لم يكلفهم أن يعرفوه حق معرفته أو يعظموه؛ لأنه لا يحتمل وسع الخلق ذلك وإنما كلفهم ما احتمله وسعهم؛ فالمشبهة -حيث وصفوه كما وصف الخلقُ من يعاينوه- لم يعرفوه المعرفة التي يحتمل وسع الخلق وبنيتهم، ولا عظموه العظمة التي يحتمل وسع الخلق وبنيتهم.
ثم إن اللَّه - سبحانه - جعل سبب معرفته الاستدلال بآثار الأفعال، لا بأفعال المحسوسات، فلا تفهم معرفته، ولا تقدر بمعرفة الخلق وتقديرهم مع ما جعل اللَّه - سبحانه وتعالى - الخلق على قسمين:
قسم منها مما يحاط به وتدرك حقيقته، وهو المحسوس منه والمدرك.
وقسم مما يعرف بآثار الأفعال والاستدلال بها، وهو غير محسوس من العقل، والبصر، والسمع، والروح، وغير ذلك، فإذ لم يدرك من خلقه ولم يحط به مما سبيل الاستدلال عليه بآثار الأفعال بالحس، فالذي أنشأ ذلك وأبدعه أحق ألا يدرك ولا يحاط بمعرفته كما يحاط ويدرك المحسوس معرفته؛ إذ الموصل إلى معرفته الاستدلال بآثار الأفعال لا بالمحسوس، واللَّه أعلم.
وكذلك ما أضاف إلى نفسه من الأحرف لا يفهم منه ما لو أضيف ذلك إلى الخلق؛ من نحو الاستواء، والمجيء، والإتيان، ونحو ذلك، ولا يقدر منه ما يقدر من الخلق على ما لم يفهم من مجيء الحق وإتيانه ما فهم من مجيء الخلق ولا إتيانهم؛ فعلى ذلك لا يفهم قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ما يفهم من قبضة الخلق وطيهم ويمينهم؛ بل يفهم من ذلك كله ما يفهم من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، كل ما ذكر من القبضة والطي واليمين في ذلك (كن) دون أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك، لكنه ذكر (كن)؛ لأنه أخف كلام على الألسن، وأوجز حرف يفهم منه المعنى ويعرف فيما بين الخلق، واللَّه أعلم.
وأصله أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - خاطبهم بما تعارفوا فيما بينهم حقيقة، وإن كان ما تعارفوا فيما بينهم منفي عن اللَّه - تعالى - نحو ما ذكر (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، وقوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، لما باليد يقدم ويؤخر في الشاهد، وإن لم يكن ما ذكر عمل اليد، وذكر بين يدي ما ذكر، وإن لم يكن بين يديه؛ لما