وخرج ما به تدرك الأشياء، وبقي منها ما به تحيا، وهو الروح، فإذا خرجت الروح منها، وإن كانت لا تدرك شيئًا على الهيئة التي كانت من قبل، دل ذلك على أن الذي به تدرك الأشياء غير الذي به تحيا؛ واللَّه أعلم؛ ألا ترى أنها في حال النوم تلك الأنفس الدراكة حيث كانت تتألم وتتلذذ، وتقضي الشهوات وهي في أقصى الدنيا، هذا كله يدل على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
ثم على هذا جائز أن يكون ما ذكر من عذاب القبر أنه إنما يكون على تلذذ الأنفس الدراكة، لا على الروح؛ على ما ذكرنا من تألمها وتلذذها بعد خروجها من الأجساد ومفارقتها عنها، واللَّه أعلم.
ثم أضاف في هذه الآية التوفي إلى اللَّه، وفي آية أخرى أضافه إلى الرسل؛ حيث قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا. . .) الآية، وأضافه مرة إلى ملك الموت حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ. . .) الآية، ثم يحتمل إضافة التوفي إلى الرسل وإلى ملك الموت وجهين:
أحدهما: وإن كان حقيقة التوفي والموت باللَّه؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح منها، ويشاء ذلك منهم، وهو كما ذكر من البشرى لهم وطمأنينة القلوب عند بعثه إليهم الملائكة بالإعانة لهم والنصر؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، أخبر أنه جعل لهم بعث الملائكة بشارة النصر، وأن حقيقة النصر ليس إلا من عند اللَّه، فعلى ذلك ما ذكر من إضافة التوفي إلى الرسل؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح، وكان حقيقة ذلك لله - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم.
والثاني: أن يكون من اللَّه لطف في ذلك، ومعنى لا يكون ذلك منهم، لكنه لم يبين ما ذلك اللطف وذلك المعنى الذي يكون منه، واللَّه أعلم بذلك.
ثم قوله: (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) أي: حين خلق موتها يقبض الروح منها.
وقوله: (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) لم يقبض منها الروح ترسل إليها النفس الدراكة إلى الأجل الذي جعل لها، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) جائز أن يكون من القبض؛ أي: يقبض الأنفس.
وجائز أن يكون من العد؛ كقوله: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا).
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يحتمل قوله: (لَآيَاتٍ): العبر، أو الأعلام، أو الحجج.