وكيف شاء من أنواع الشدائد والبلايا على أيدي من شاء، بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك، وله أن يجتبي إلى من شاء من أنواع الخير والنعم ابتداء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك؛ فعلى ذلك بلاء أيوب - عليه السلام - والشدائد التي أصابته جائز أن يكون بلا سبب كان منه يستوجب ذلك، ولكن ابتداء امتحانٍ منه إياه بذلك.
ثم قوله: (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) إنه وإن أضاف إليه فهو في الحقيقة من اللَّه لما أخبر أنه على يديه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) أخبر أن حقيقة العذاب منه وإن كان على أيديهم يجري ذلك؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ)، أي: ما يمس الإنسان من ضر يكون على يدي آخر ويكون من اللَّه، وله في ذلك صنع وفعل لا على ما يقوله المعتزلة أن لا صنع للَّه، في فعل العباد، وأخبر أنه لو أراد بأحد ضرا ومسه بذلك، فلا كاشف لذلك الضر ولا دافع، وأنه لو أراد خيرا بأحد فلا راد لذلك الفضل غيره، فهو على المعتزلة أيضًا.
وقوله: (بِنُصْبٍ)، ونُصُب: واحد وهو تعب؛ وكذلك يقول الْقُتَبِيّ: النُّصب والنَّصب واحد مثل حُزن وحَزن وهو العناء والتعب.
وقال أبو عبيدة: النَّصَب: الشر، والنُّصب: الإعياء.
ومنهم من يقول: إن أحدهما فيما يصيب ظاهرًا من جسده، والآخر فيما يصيب باطنه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
جائز أن يكون لما قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) دعا عند ذلك أن يكشف عنه البلايا التي مسته، كأنه قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فاكشف ذلك عني (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ويدلك على ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) دل هذا على أن قد كان منه دعاء وسؤال في كشفه الضر عنه، فاستجاب الله دعاءه، فعند ذلك قال: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) جائز أن يكون لما ضرب برجله الأرض وركضها نبع منها عينان: إحداهما للاغتسال فيها والأخرى للشرب منها، فكانت التي للشرب منها ماؤها بارد على ما يوافق الشرب ويختار ذلك، والأخرى ماؤها ما يوافق الاغتسال وهو دونه في النزول على ما قاله أهل التأويل عامة؛ كقوله - عز وجل -: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)، وإنَّمَا السكون فيما يسكن وهو الليل والابتغاء بالنهار.
وجائز أن يكون العين واحدة إلا أنه لما اغتسل منها كان ما يوافق الشرب.