قال أبو معاذ: قال مقاتل بن سليمان: إنه يقول: يا موسى، إن النور الذي رأيت أنا اللَّه، وهذا محال لا وجه له؛ لأنك لا تقول: " إن الذي رأيت أنا " لإنسان رآه أو لشيء رآه، ولكن تقول: أنا الذي رأيت.
ومحال -أيضًا- قوله؛ لما ذكر في حرف ابن مسعود: (نودي يا موسى لا تخف) يكلمه اللَّه ويخاطبه ثم يقول: إن النور الذي رأيت أنا.
ومحال -أيضًا- لقول اللَّه: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)، قال اللَّه: (فَلَمَّا أَتَاهَا)، ولم يقل: أتاه.
ومحال -أيضًا-: أن يكون اللَّه نعتًا؛ لأنك لا تقول بأن الذي رأيت أنا أخوك.
فقال: قول مقاتل محال من أربعة أوجه خلافا لظاهر الآية، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم. وقوله: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) في الآية الأمر بإلقاء العصا، ولم يذكر أنه ألقاها، ولكن فيه: (وَأَلْقِ عَصَاكَ) فألقاها، (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ)، أي: تتحرك كأنها جان.
ذكر أهل التأويل أن الجان هي الحية الصغيرة ليست بعظيمة.
لكنه أخبر أن موسى خافها وولى مدبرا، وموسى لا يحتمل أن يخاف من حية صغيرة على الوصف الذي ذكر، فكأنها كانت عظيمة لكنها في تحركها والتوائها كأنها صغيرة؛ إذ الحية العظيمة الكبيرة لا تقدر على التحرك والالتواء كالصغيرة؛ لذلك خافها موسى، حتى نهاه اللَّه عن ذلك وقال له: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).
وقوله: (وَلَمْ يُعَقِّبْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يرجع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يلتفت، وهو مأخوذ من العقب.
والجان: قَالَ بَعْضُهُمْ: من الجن، والجان: الحية، ولا تكون إلا من الجن.
وقول أبي عبيدة: وقوله: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) فَإِنْ قِيلَ: كيف نهاه عن الخوف، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون، وقد مدح اللَّه الملائكة وغيرهم من الخلائق بالخوف من ربهم؛ حيث قال: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)، وقال في آية أخري: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)، و (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، وأمثال ذلك من الآيات مما فيها مدحهم بالخوف من ربهم؛ لكنه يخرج على وجوه: أحدها: أنه قد أمن موسى حيث قال: (وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)؛ فكأنه قال هاهنا: لا تخف بعدما أمنتك؛ (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) إذا أمنتهم.