(سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ) وقال في آية أخرى: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)، هذا يدل أنه كان ضل الطريق على ما ذكره أهل التأويل، وقال في آية أخرى: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ذكر على التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف، والقصة واحدة، والممتحن بذلك موسى لا غير؛ فهذا يدل أن ليس على الناس تكلف حفظ الألفاظ والحروف بلا تقديم ولا تأخير ولا تغيير، بعد أن أصابوا المعنى المودع فيها - أعني: في الألفاظ - وحفظوها من غير تغيير يدخل في المعنى المودع؛ إذ قصة موسى هذه وغيرها من قصص الأنبياء - عليهم السلام - ذكرت في الكتاب في التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف فدل: أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف في كثير من الأحكام في الشهادات والأخبار وغيرها، وإنما عليهم إصابة المعنى.
ثم قوله: (بِشِهَابٍ قَبَسٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الشهاب: خشبة في طرفها نار، والقبس: النار وشهبان: جمع، ولا تسمى النار: قبسا إلا ما يحمل من موضع إلى موضع، يقال: قبست النار قبسا واقتبست؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: القبس: الجمر، والشهاب: النار الموقدة، وهو قول أبي عبيدة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشهاب: النور، والشهاب: الكواكب، سمي: شهابًا لضوءه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِشِهَابٍ قَبَسٍ) أي: شعلة من نار، والجذوة: كأنها خشبة فيها نار؛ وهو مثل الأول.
ودل قوله: (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) على أن الوقت وقت البرد وأيام الشتاء؛ حيث ذكر الاصطلاء وهو الاستدفاء، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) اضطربت أقاويل أهل التأويل في هذا:
صرف بعضهم تأويله إلى (ما) لا يزيده إلا سماجة وبعدًا عن الحق والصواب وعمى، لكن لو جاز أن يعبر ويكنى بحرف (مَن) عن غير مميز وغير ذي فهم وعقل، لاستقام التأويل فيه ولم يقع فيه شبهة؛ فيجعل كأنه قال: أن بورك ما فيه من النار وما حولها، ويكون عبارة عن المكان الذي فيه النار وما حولها من الأمكنة، أي: بورك في ذلك