وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لو شئنا لرفعنا عنك، يعني: ما حملنا عليك من المؤن من مؤنة التبليغ والقيام بذلك، وحملنا غيرك؛ فيكون عليك أيسر وأهون من القيام بالكل.
والثاني: لو شئنا لجعلنا غيرك -أيضًا- أهلا للرسالة وموضعًا لها في زمانك وحينك، فبعثناه في بعض القرى والمدن، لكنا لم نجعل غيرك أهلا لها، وخصصناك لها من بين غيرك من الناس؛ فهو على الامتنان يخرج والاختصاص له.
ثم لا يخلو ذلك من أن يكون فيهم من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعًا، فلم يرسل، أو كان لم يكن فيهم من يصلح لذلك؛ فيكون تأويله: لو شئنا لجعلنا فيه من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعًا، فأي الوجهين كان، فهو ينقض على المعتزلة قولهم؛ لأنه إن كان فيهم من يصلح لها وأرسل كان أصلح له فلم يرسل، فقد ترك ما هو أصلح له وأخير، أو أن يكون لا يصلح فيهم أحد لذلك، لكنه يملك أن يصلحه ويجعله أهلا لها، فهو أصلح له وأخير ثم لم يفعل؛ دل أن له ألا يفعل الأصلح والأخير في الدِّين.
وقوله: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز للرسل النبذ والامتناع عن التبليغ إليهم والقيام بمجاهدتهم، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك؛ حيث قال: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، ولم يكن معهم يومئذ إلا قليل ممن اتبعه؛ إذ كان ذلك بمكة؛ لأن سورة الفرقان فيها نزلت.
والثاني: فيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أمر بالخلاف لهم، والقيام بمجاهدتهم بالحجج والآيات، وهم يعلمون ألا يكون في وسع واحد القيام لذلك لأمثالهم، وكانت همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم؛ فعلموا أنه إنما قام لذلك باللَّه لا بنفسه؛ إذ لا يملك واحد القيام لذلك، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا