قوله: (أَلَمْ تَرَ)، و (أَلَمْ تعلَم)، ونحوه في الظاهر حرف تعجيب واستفهام، يقول الرجل لآخر: ألم تر كذا، وألم تعلم كذا؛ على التعجيب أو على الاستفهام، لكنه يخرج من اللَّه على وجهين:
أحدهما: أي: قد رأيت وعلمت؛ إذ الاستفهام لا يجوز عنه.
والثاني: على الأمر؛ أي: اعلم ورِه؛ على ما ذكرنا في غير موضع.
وقوله: (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
يحتمل تسبيح من ذكر وجهين:
أحدهما: تسبيح خلقة وصنعة؛ إذ في خلقة كل أحد دلالة وحدانيته وتعاليه عن الأشباه وتنزيهه، والشهادة له بالربوبية، والتفرد بالألوهية له.
والثاني: يجعل اللَّه - تعالى - في هذه الخلائق من الطيور والدوابّ وغيرها معنى يسبحون له بذلك، يفهمون هم ذلك من أنفسهم، ويعرفون أنه تسبيح؛ وإن لم يفهم غيرهم من الخلائق، نحو ما ذكر من تسبيح الجبال والطير في قصة سليمان في قوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)، وقال في آية أخرى: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ).
ولو كان التسبيح ممن ذكر تسبيح خلقة لكان سليمان وغيره من الناس في ذلك شرعًا سواء؛ والعشي وغيره من الأوقات سواء، فدل تخصيص سليمان في ذلك، وتخصيص الأوقات من بين غيرهم على أن تسبيح هذه الأشياء ليس بتسبيح خلقة؛ ولكنه تسبيح عبادة بالمعنى الذي جعل له فيه، وإن لم يفهم غيره من الخلائق تسبيحهم؛ ألا ترى أن الله تعالى أخبر عن قول النملة؛ حيث قال: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ. . .) الآية، ثم معلوم أنه لم يكن حقيقة قوله كقول المميز والممتحن، ولكنه معنى، فهموا منها ذلك، فعلى ذلك الأول؛ ألا ترى أنه أخبر عن نظر الجوارح وشهادتها عليه يومئذ؛ حيث قال: (يَوْمَ تشْهَدُ عَلَيهِم. . .) الآية، وقال: (شَهِدَ عَليهِم. . .) الآية، فيفهم هَؤُلَاءِ من شهادة الجوارح عليهم ما لم يفهمه غيرهم حتى أنكروا عليها؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا.
وذلك جائز أن يكون لمعنى فيهم فهموه هم ولا يفهمه غيرهم؛ ألا ترى أن اللَّه جعل في سرية الماء معنى يحيا به كل شيء إذا أصابه ووصل إليه، وذلك المعنى لا يعلمه إلا اللَّه أو من أطلعه اللَّه عليه وارتضاه لنفسه رسولا، فعلى ذلك تسبيح من في السماوات والأرض والطير وغيره، جعل في سريتهم معنى يعرفون هم من أنفسهم ذلك تسبيحًا له