وقد كان عليهم من النعم ما هو أعظم وأكثر مما ذكر من المن والسلوى ونجاتهم من فرعون وآله، لكنه خصهم بذكر المن والسلوى واستأدى منهم الشكر بذلك من بين سائر النعم؛ لأنها خرجت عن المعتاد من النعم المعروفة، وهم كانوا مخصوصين بهذا من بين غيرهم؛ فعلى ذلك عيسى وأمه: كانا خارجين عن الأمر المعتاد ومخصوصين بذلك؛ لذلك خصهما بذكر الآية، والآية ما ذكر بعض أهل التأويل أنه خلق من غير أب، ولدته أمه من غير فعل أمثالها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في عيسى: بأن كلم الناس في المهد صبيا، ونحوه: من إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، ومثله.
وقوله: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ).
ذكر أنه آواهما إلى ربوة كما يؤوي الأب والأم الولد إلى مكان يتعيش به؛ إذ الربوة هي مكان التعيش فيه؛ ألا ترى أنه ذكر (ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) هو المكان الذي يستقر فيه ويتعيش.
وقوله: (وَمَعِينٍ)، المعين: هو الماء الجاري الظاهر الذي تأخذه العيون، وتقع عليه الأبصار.
وقوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
قال عامة أهل التأويل: إنما خاطب بهذا محمدًا خاصة، على ما يخاطب هو، والمراد منه: جميع أمته في ذلك.
ولكن جائز أن يقال: خاطب به جميع الرسل؛ لأنهم جميعًا مخاطبون بهذا كله: من أكل الطيبات، والعمل الصالح، هذا الخطاب فيه وفي غيرهم؛ إذ عمهم جميعًا بهذا.
ثم الطيبات يحتمل أن يراد بها الحلالات؛ كأنه قال: كلوا حلالا غير حرام؛ ألا ترى أنه قال: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، أي: اعملوا صالحًا، ولا تعملوا سيئا؛ فعلى ذلك قوله: قوله تعالى: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ)، أي: كلوا حلالا ولا تأكلوا حرامًا: ما خبث.
وفيه أنهم يمتحنون كما يمتحن غيرهم بالأمر والنهي.
ويحتمل -أيضًا- قوله: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ): ما طابت به أنفسكم وتلذذت، فإن كان على هذا فهو يخرج على الإباحة والرخصة، ليس على الأمر، معناه: لكم أن تأكلوا ما تطيب به أنفسكم، ولكم أن تؤثروا غيركم به على أنفسكم.
وإن كان على الأمر فهو على الأمر يخرج والنهي، واللَّه أعلم.