وسمى السماء بناء -وإن كان لا يشبه بناء الخلق- حتى يعلم أَن البناء ليس اسم ما يبني الناس خاصة.

ثم بين بقوله: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ).

أي: وجهوا العبادة إلى الذي ينزل لكم من السماء ماء عند حوائِجكم، ولا تعبدوا من تعلمون أنه لم يخلقكم، ولا أَنزل لكم من السماء ماء، ولا أخرج لكم من ذلك الماءِ ثمرات تكون رزقًا لكم.

بل هو اللَّه الواحد الذي لا شريك له؛ ولأَنه يخلقكم، ويرزقكم، ويخرج لكم من ذلك الماء المنزل من السماء رزقا تأْكلونه، وماء عذبًا تشربونه.

وفي الآية دلالة أن المقصود في خلق السماءِ والأَرض، وإنزال الماءِ منها، وإخراج هذه الثمرات وأَنواع المنافع - بنو آدم، وهم الممتحنون فيها؛ بدلالة قوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) وما ذكر من المخرج والمنزل منها، وما ذكر في آية أخرى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، ومنه (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ)، مما يكثر من الآيات.

أضاف ذلك كله إلينا، ثم جعل - عَزَّ وَجَلَّ - بلطفه مَنافع السماءِ متصلة بمنافع الأرض على بُعْدِ ما بينهما من المسافة، حتى لا تخرج الأَرض شيئًا إلا بما ينزل من السماء من الماء؛ ليعلم أَن منشئ السماءِ هو منشئ الأَرض؛ لأَنه لو كان منشئ هذا غير منشئ الآخر لكان لا معنى لاتصال منافع هذا بمنافع الآخر على بُعْدِ ما بينهما، ولتوهم كون الاختلاف من أَحدهما للآخر.

فإذا كان كذلك دل على أَن منشئهما واحد، لا شريك له ولا ند.

ثم زعم قوم: أَن الأَشياء كلها حِل لنا، طلق، غير محظور علينا، حتى يجيء ما يخظر، فاستدلوا بظاهر هذه الآية بقوله: (رِزقا لَكُم)، وبقوله: (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا). وقال آخرون: لا يدل ذلك على الإباحة؛ وذلك أَن الأَشياء لم تَصِر لنا من كل الوجوه، فهو على الحظْر حتى تجيء الإباحة، ولأَن الأَشياء لا تحل إلا بأسباب تتقدم؛ فظهر الحظْر قبل وجود الأَسباب، فهو على ذلك حتى يجيء ما يُحل وُيبيح.

أَو أَن يقال: خلق هذه الأَشياء لنا محنة امتحنا بها، أَو فتنة فتنا بها؛ كقوله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، فُتِنَّا بها؛ وكقوله: (وَلنبلُوَنَّكُم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015