ما أشرك أهل مكة وغيرهم من الكفار في عبادتهم غيره، وهي الأصنام التي عبدوها.
والثاني: اعبدوا ربكم بالأسباب والأشياء التي عرفكم أنها عبادة، وكذلك افعلوا الخيرات التي عرفكم أنها خيرات.
والثالث: أن اجعلوا أحوالكم التي أنتم عليها من قيام وقعود، وحركة وسكون، عبادة لله تعالى، واجعلوا تقلبكم أيضا للمعاش الذي أبيح لكم وأذن فيه عبادة، فالأول هو عبادة بنفسه التي جعلها اللَّه نصًّا، والثاني هو الذي يصير عبادة بالنية والقصد؛ فيكون في جميع أحواله مؤدي عبادة، وهكذا الواجب على المرء أن يكون في جميع ما يؤذي من الصلاة والصيام وغيره مؤدي فرض، وهو أن يؤدي جميع ذلك بنية الشكر لنعمه، وتكفيرًا لمعاصيه، وكلاهما لازمان واجبان، فإن فعل ذلك كان مؤدي لازم، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ظاهره خرج على الترجي، وفي الحقيقة على الوجوب، على ما ذكرنا فيما تقدم.
وقوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ... (78) ليس لحق اللَّه غاية يوصل إليها، وكذلك قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)؛ لأنه لو كان لحقه غاية لكان الرسل والملائكة يقومون بوفاء ذلك ويتوهم منهم المجاوزة عن ذلك؛ إذ كل ذي حد وغاية يتوهم المجاوزة فيه، فإن لم يحتمل المجاوزة دل أن حقه ليس بذي حد وغاية، ويكون تأويل قوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) و (حَقَّ تُقَاتِهِ)، حقه الذي احتمل وسعكم وبنيتكم وطاقتكم، كقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فيكون هذا تفسيرًا لقوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) و (حَقَّ جِهَادِهِ).
ثم يحتمل قوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ) أي: جاهدوا أنفسكم في شهوتها وأمانيها.
أو جاهدوا أعداء اللَّه في دفع الوسواس والمحاربة معهم.
وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) يحتمل وجهين:
أحدهما: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) للإيمان والهدى والتوحيد.
أو (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) جنسًا من أفضل الأجناس وأكرمهم من بين سائر الأجناس، كقوله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
وقال عامة أهل التأويل في قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي: وحدّوا ربكم، جعلوا كل عبادة مذكورة في الكتاب توحيدا؛ فيكون ذكر العبادة هاهنا كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ)، كأنه قال: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا وحدوا ربكم.
ثم اختلف في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: فيه وجوب سجدة التلاوة على ذلك، وهي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -