ثم قوله: (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا) في الطاعة والعبادة والذكر والتسبيح والتحميد ما دمت حيًّا، ولكن أشرك لي في العبادة والذكر من يعينني على ذلك، وهو كقول موسى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)، وقوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، إذا مت.
أو أن يكون قوله: (لَا تَذَرْنِي فَرْدًا) بعد مماتي في قبري، ولكن هب لي من يذكرني ويدعو لي بعد وفاتي ويحيي أمري.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) أي: وأنت خير من يرث العبادة، على هذا التأويل، وعلى التأويل الأول: وأنت خير من يعين على العبادة والطاعة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ... (90) أي: دعاءه (وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى) قال الحسن: إن كان يَحْيَى على ما سماه اللَّه في الطاعة والعبادة، وفي الآخرة يحيى في الكرامات والثواب الجزيل، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) يخرج على وجهين:
أحدهما: أن جعلناها بحيث يرغب فيها زوجها ذات هيئة ومنظر؛ لأنه ذكر في القصة أنها بلغت في السن مائة غير شيء، والعرف في النساء أنهن إذا بلغن المبلغ الذي ذكر أنها بلغت زوجة زكريا يكن من القواعد اللاتي لا يرغب فيهن أحد، فأخبر أنه أصلحها وصيرها بحيث يرغب فيها، ذات هيئة ومنظر.
والثاني: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) أي: ولودًا بحيث تلد؛ لأنه لما بشر بيحيى قال: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)، والعاقر: التي لا تلد، فيكون قوله: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) ولودًا بحيث نلد، واللَّه أعلم.
هذان الوجهان محتملان.
وأمَّا قول من يقول بأن في لسانها بذاء وطولًا، وفي خلقها سوءا فذلك لا يحل أن يقال إلا بثبت، وهو على خلاف ما ذكرهم ووصفهم، حيث قال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) ثم المسارعة في الخيرات أنه كان لا يمنعهم شيء عن الخيرات، وهكذا المؤمن هو يرغب في الخيرات كلها، إلا أن يمنعه شيء من شّهوة أو سهو.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) أي: يدعوننا رغبا فيما عندنا من جزيل الثواب، ورهبا من أليم عقابنا.