جهة يذهب الاحتجاج بها عليهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
قوله: (نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) للتفكر والنظر في قول إبراهيم حيث قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، إنما علق فعل الكبير بهم إن نطقوا، فقالوا: لقد علمت يا إبراهيم ما هَؤُلَاءِ ينطقون، فكيف قلت: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ)، فإذا كانوا لا ينطقون لم يفعل كبيرهم، ثم قال: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) فَإِنْ قِيلَ: إن إبراهيم لم يحتج عليهم أن كيف تعبدون من دون اللَّه ما لا ينطق؟ ولكن قال: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ).
قيل: قد كان احتج عليهم من ذلك النوع حيث قال: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)، وبعد فإنه قد احتج عليهم بعجزهم عن النطق حيث قال: (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، ثم قال هاهنا: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا) إن عبدتموهم (وَلَا يَضُرُّكُمْ) إن تركتم عبادته.
(أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) أُفٍّ: هو كلام كل مستخف بآخر ومستحقر له في فعله؛ يقول: (أُفٍّ لَكُمْ)، فإبراهيم حيث قال ذلك لهم إنما قال استخفافًا بهم وبما عبدوه، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ): أن عبادة من لا ينفع ولا يضر لا تصلح ولا تحل.
وفي أنباء إبراهيم خصال ليست تلك في غيرها من الأنباء:
إحداها: أنه لم يترك صنما كان يعبد دون اللَّه إلا وقد نقض ذلك.
والثانية: أنه حاج قومه أولا في فساد مذاهبهم وفساد ما اعتقدوه، ثم بعد ذلك أقام عليهم حججه وبراهينه؛ لأنه قال: (هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)، وقال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، وقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)، فلما أراهم فساد مذهبهم، فعند ذلك ذكر حججه وبراهينه حيث قال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، وقال: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. . .)، وهكذا الواجب على كل متناظر أن يبدأ أولا بإظهار فساد مذهب خصمه، فإذا أراه فساد مذهبه، فحينئذ يذكر حجج مذهبه وبراهين ما يعتقد؛ ليكون لها أسمع وعند إقامتها أقبل.
والثالثة: أنه لم يبتل نبي قط بفرعون مثل فرعونه ولا قوم مثل قومه في السفه والبغض والهم بقتله بالنار.
وجائز أن يكون خصوصية الخلة لهذه الخصال التي ذكرناها، واللَّه أعلم.