قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما خاطب به مشرير العرب وأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالرسل المتقدمة؛ ليخبروكم: أنه لم تجعل الرسالة فيهم إلى عامة الخلق إلا في البشر، وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما خاطب من كفر من أهل الكتاب - من لا يعرف الكتاب وغيره - بمُحَمَّد أن اسألوا أهل الذكر، أي: من آمن منهم؛ ليخبروكم أن محمدا رسول اللَّه إليكم إن كنتم لا تعلمون أنتم أنه رسول اللَّه، فهذا التأويل في مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة والتأويل الأول في جميع الرسل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
قَالَ بَعْضُهُمْ: ما جعلنا أجسادًا لا أرواح فيها لا يأكلون ولا يشربون، ولكن جعلناهم أجسادا فيها أرواح يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق.
وجائز أن يكون قوله: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) من نحو الملائكة والجن، ولكن جعلناهم بشرًا.
وحاصله: أنهم كانوا يطعنون الرسل بأشياء، مرة قالوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وقالوا: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ونحوه، كانوا لا يرون الرسالة في البشر، ولا يرون الرسول يكون من نوع المبعوث إليه، فألزمهم أن الرسل الذين كانوا من قبل الذين صدقهم آباؤهم وآمنوا بهم كانوا من البشر بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)، ومرة طعنوا الرسل أنهم يأكلون الطعام ويشربون وينكحون ويمشون في الأسواق كغيرهم من الناس؛ كقولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)، ونحوه، فألزمهم - عَزَّ وَجَلَّ - وأخبرهم أن الرسل الذين كانوا من قيل كانوا يأكلون ويشربون ويقضون حوائجهم؛ حيث قال: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) في الدنيا، وما قال في آية أخرى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)؛ فعلى ذلك الرسول المبعوث إليكم هو كسائر الرسل الذين كانوا من قبل، هو ممن يأكل ويشرب وينكح وهو رسول، وأنه بشر كسائر الرسل، وهو رسول اللَّه؛ على هذا يخرج تأويل الآية.
وهذه الآية ترد على الباطنية قولهم ومذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن الرسالة لا تكون في الجوهر الكثيف الجسداني الذي يأكل ويشرب ويفنى ويبيد، إنما تكون في الجوهر البسيط الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يبيد ولا يفنى، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لم يجعلهم جسدًا لا