والسبب الذي به نزل؛ لأنه لم يبيِّن، ولا حاجة بنا إلا إلى معرفة ما ذكر، وهو قوله: (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)، أي: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، بل أنزلناه لتسعد، وأنزلناه ليتذكر به من يخشى، كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) أي: عظة لمن يتقى ما به يخشى.
ويحتمل قوله: (لِمَنْ يَخْشَى): كل مؤمن؛ لأن كل مؤمن يعتقد في أصل إيمانه الخشية منه والاتقاء من نقمته وعذابه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
كأن هذا نزل على إثر قول قاله أُولَئِكَ الكفرة، وهو ما قالوا: إنه ساحر، وإنه مفتر، وإنه شاعر وإنما يعلمه بشر ونحوه، فقال جوابًا لقولهم: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى) وليس كما يقول أُولَئِكَ: إنه ساحر وإنه مفتر وإنما يعلمه بشر، بل تنزيلًا ممن خلق الأرض والسماوات العلا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: القول بالكون على العرش - وهو موضع - بمعنى كونه بذاته أو في كل الأمكنة لا يعدو عن إحاطة ذلك به أو الاستواء أو مجاوزته عنه أو إحاطته:
فإن كان الأول فهو إذن محدود محاط به منقوص عن الخلق؛ إذ هو دونه، ولو جاز الوصف له بذاته بما يحيط به الأمكنة لجاز أن يحيط به الأوقات؛ فيصير متناهيًا بذاته مقصرًا عن خلقه.
وإن كان على الوجه الثاني، فلو زيد في الخلق، لانتقص أيضًا، وفيه ما في الأول.
ولو كان على الوجه الثالث فهو الأمر المكروه الدال على الحاجة وعلى التقصير من أن ينشئ ما لا يفضل عنه مما يذم ذا من فعل الملوك أن يفضل عنهم من المقاعد شيئًا.
وبعد: فإن في ذلك تجزئة بما كان بعضه في ذي أبعاض، وبعضه يفضل عن ذلك، وذلك كله وصف الخلائق، واللَّه يتعالى عن ذلك.
وبعد: فإنه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح أو الجبال أنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر؛ فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه؛ حيث فيها ذكر العظمة والجلال؛ إذ ذكر في قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) وصفه بالعظمة والسلطان، والقدرة، فكذلك على تعظيم العرش، أي شيء كان من نور أو جوهر؛ لا يبلغه علم الخلق، وإضافة الاستواء إليه لوجهين: