(وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا).
أي: لم تقدر الأصنام التي عبدوها أن تصرف النار عنهم: قال أبو عبيدة: (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)، أي: معدلا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا) قد ذكرناه وبيناه في غير موضع، وقوله: (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتمل وجهين: أحدهما: مِن ص مَثَلى، أي: من كل صفة؛ كقوله: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) أي: الصفات العليا.
والثاني؛ المثل: هو الشبيه؛ كقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
فإن كان التأويل: الشبيه؛ فكأنه يقول - واللَّه أعلم - (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا)، أي: بينا (فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل ما بهم حاجة إلى معرفة ما غاب عنهم؛ جعل لهم شبيها مما شاهدوا أو عرفوا ليعرفوا به ما غاب عنهم.
وإن كان تأويل المثل: الصفة، فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: ولقد بيّنا في هذا القرآن من كل ما يؤتى وما يتقى صفة: يعرفون بها ما لهم وما عليهم، وما يأتون وما يتقون، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا).
قال أهل الشأويل: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ) يعني: الكافر (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، أي: جدالا؛ كقوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ).
ويشبه أن يكون قوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، أي: وكان جوهر الإنسان أكثر جدلا من غيرهم من الجواهر؛ لأن الجن لما عرض عليهم القرآن والآيات قبلوها على غير مجادلة ذكرت؛ حيث قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. . .) الآية، وكذلك الملائكة لم يذكر منهم الجدال ولا المحاجة في ذلك.
وقد ظهر في جوهر الإنسان المجادلات والمحاجات في الآيات والحجج، من ذلك قوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ. . .) الآية، وقوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ)، وأمثال هذا؛ لذا احتيج إلى إنزال كثرة الآيات والحجج؛ لكثرة ما ظهرت منهم المجادلة.
وفيه الإذن بالمجادلة والمحاجة في الدِّين على الوصف الذي ذكر، واللَّه أعلم.