ثم الدلالة على حكمته وعلمه: ما لم يُعَايَنْ شَيءَ وَلَا يُشَاهَدْ إلا وفيه حكمة عجيبة، ودلالة بديعة مما يَعْجَزُ الحكماء عن إدراك مائيته، وكيفية خروجه على ما خرج، وعلم كل أحد منهم بتصور علمه على ما عنده من الحكمة، والعلم عن إدراك كُنْهِ ذلك فيما ذكرنا، وخروجُ الفعل متقنًا محكمًا - دلالةُ حكمةِ مبدعه وخالقه، وباللَّه التوفيق.
ثم الدلالة أنه لم يخلق الخلق للفناء خاصَّة؛ ولكن خلق للعواقب: يتأمل ويرجى ويخاف ويحذر - خروج فعل كل أحد في الشاهد من الحكمة إذا بنى للفناء والنقض، فإذا كان الحكمة التي هي جزء يُخرج فعلَهُ عن الحكمة؛ إذا كان ذلك للفناء والهلاك خاصَّة، فخروج الكل عن ذلك لذلك أحرى وأولى أن يكون سفها لا حكمة، واللَّه الموفق.
قال: دلت طمأنينة القلوب بموت كل نفس، وترك حكماء البشر الاحتيال - في دفعه، على ما ليس في الجوهر دليله، ولا في العقل امتناعه - أنه عرف ذلك بمن له التدبير فيها بالوحي إليه؛ وفي ذلك إيجاب القول بالرسل، ثم دل قهر جميع الحكماء به على حب الحياة إليهم، وبغض الموت عندهم - على خروج جميع الأحياء عن تدبيرهم، وفي خروجهم خروج الأموات؛ إذ هم تحت تدبير الأحياء.
ثم في طمأنينة كل قلب على الموت دلالةُ التدبير للواحد؛ إذ لو كان لأكثر لَجُوز التمانع وإبطال الوارد من الحي؛ وفي ذلك ارتياب، مع ما كانت كل نفس تحت أمور تقهرها، وتحوجها إلى أمور تعلم أن مدبرها هيأها على ذلك وطَبَعَهَا، وأنه العليم بما به صلاحها وقوامها وإليه حاجتها، وعلى ذلك جبلها؛ ليظهر عظيم حكمته وتعاليه عن الشرك في التدبير، أو المعونة في التقدير.
ثم لا يحتمل نشوء مثله على ما جرى عليه من حكمته في موت كُل - أنه كان للموت أنشأ لا لغير؛ إذ تدبيرُ فعلٍ واحد للفناء خاصَّة من حكماء البشر - يُخْرِج عن معنى الحكمة، ويدل على قصور صاحب ذلك وسفهه؛ فجملة العالم الذي كانت حكمة الحكماء جزءًا منها، وعقل العقلاء بعضًا منها - أحق وأولى؛ فثبت أنها أُنْشِئَتْ (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)، ويوم تجزى كل نفس بما كسبت، وذلك قوله - تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
لما ذكرنا أنهم لها خلقوا -أعني: الآخرة- للجزاء والثواب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ):