وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) هو:

كأنه يعاتبهم - واللَّه أعلم - بقولهم: (أَنَّى هَذَا)؛ فقال (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ): يعاتبهم بتركهم الاشتغال بالتوبة عما ارتكبوا من عصيان ربهم، والخلافِ لنبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ مثل ذلك الكلام لا يكون إلا ممن كان متبرئًا عن ارتكاب المنهي والخلافِ لأمره، فأما من كان منه ارتكاب المناهي والخلاف لربه؛ فلا يسع ذلك أو كان ما أصابهم إنما أصاب محنة منه، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن على يدي من شاء؛ إذ كلهم عبيده، فعاتبهم لما لم يعرفوا محنه، و (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا)، ونحن مسلمون نقاتل في سبيل اللَّه، وهم مشركون؟! فقال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، يقول: بمعصيتكم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وبتركبهم ما أمركم به من حفظ المركز وغيره؛ كقوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ).

قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله - تعالى -: (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا): يخرج إن كان من أهل النفاق مخرج الاستهزاء، أي: لو كان ما يقول مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من النصر له والرسالة حقًّا؛ فمن أين بُلي بهذا؟! وذلك كقولهم: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) وقولهم يوم الخندق: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، وغير ذلك مما عليه معتمدهم في إظهار الإسلام، واللَّه أعلم.

وإن كان ذلك من أهل الإيمان فهو سؤال تعريف الوجه الذي بلوا به، وهم أنصار دين اللَّه، وقد وعد لأنصار دينه النصر، وإن الذي يتصره اللَّه لا يغلبه شيء، وكان قد وُعِدوا إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، أو بما كانوا رأوا الدَّبْرَةَ عليهم والهزيمة من الأعداء، فيقولون: بم انقلب علينا الأمر؛ فبين أنه بما قد عصوا ومالوا عن اللَّه، وإن كان ذلك عن بعضهم لا عن كلهم: فجائز ذلك بحق المحنة؛ إذ قد يجوز الابتداء به مع ما يكون ذلك عن المعاصي أزجر، وللاجتماع على الطاعة أدعى؛ إذ المحنة بمثله تدعوا كلًّا إلى اتقاء الخلاف، ومنع إخوانه -أيضًا- عن ذلك؛ فيكون به التآلف وصلاح ذات البين، واللَّه أعلم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015