تفسير القرطبي (صفحة 909)

إِذَا عُصِيَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِكَ لِوَالِدَيْكَ إِذَا شُتِمَا. وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ" كَذِكْرِكُمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ." أَوْ أَشَدَّ" قَالَ الزَّجَّاجُ:" أَوْ أَشَدَّ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى ذِكْرِكُمْ، الْمَعْنَى: أَوْ كَأَشَدَّ ذِكْرًا، وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ" أَفْعَلُ" صِفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى أَوِ اذْكُرُوهُ أَشَدَّ. و" ذِكْراً" نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا"" مِنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَإِنْ شِئْتَ بِالصِّفَةِ يَقُولُ" رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا" صِلَةٌ" مَنْ" الْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ. قَالَ أَبُو وَائِلٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زيد: كانت العرب في الجاهلية تدعوا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَقَطْ، فَكَانُوا يَسْأَلُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ وَالظَّفَرَ بِالْعَدُوِّ، وَلَا يَطْلُبُونَ الْآخِرَةَ، إِذْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهَا وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ الدُّعَاءِ الْمَخْصُوصِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، وَجَاءَ النَّهْيُ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ هَذَا الْوَعِيدُ الْمُؤْمِنَ أَيْضًا إِذَا قَصَرَ دَعَوَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى هَذَا فَ" مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ" أَيْ كَخَلَاقِ الَّذِي يَسْأَلُ الْآخِرَةَ وَالْخَلَاقُ النَّصِيبُ. وَ" مِنْ" زائدة وقد تقدم.

[سورة البقرة (2): آية 201]

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201)

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ" أَيْ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الْحَسَنَتَيْنِ عَلَى أَقْوَالٍ عَدِيدَةٍ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْحُورُ الْعِينُ." وَقِنا عَذابَ النَّارِ": الْمَرْأَةُ السُّوءُ. قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ، لِأَنَّ النَّارَ حَقِيقَةٌ فِي النَّارِ الْمُحْرِقَةِ، وَعِبَارَةُ الْمَرْأَةِ عَنِ النَّارِ تَجَوُّزٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعَافِيَةُ فِي الصِّحَّةِ وَكَفَافُ الْمَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعِلْمُ وَالْعِبَادَةُ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَتَيْنِ نِعَمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي هَذَا كُلَّهُ، فإن" حَسَنَةً"

طور بواسطة نورين ميديا © 2015