تفسير القرطبي (صفحة 793)

وَتَعَدَّى" الرَّفَثُ" بِإِلَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَدُّهُ:" الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ". وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: رَفَثْتُ إلى النساء، ولكنه جئ بِهِ مَحْمُولًا عَلَى الْإِفْضَاءِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْمُلَابَسَةُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ:" وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ (?) ". [النساء: 21]. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى:" وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ" [البقرة: 14] كما تقدم (?). وقوله:" يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها" [التوبة: 35] أَيْ يُوقَدُ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: أُحْمِيَتِ الْحَدِيدَةُ فِي النَّارِ، وَسَيَأْتِي (?)، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (?) " [النور: 63] حُمِلَ عَلَى مَعْنَى يَنْحَرِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَوْ يَرُوغُونَ عَنْ أَمْرِهِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: خَالَفْتُ زَيْدًا. ومثله قوله تعالى:" وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (?) " [الأحزاب: 43] حمل على معنى رءوف في نحو" بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (?) " [التوبة: 128]، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: رَؤُفْتُ بِهِ، وَلَا تَقُولُ رَحِمْتُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا وَافَقَهُ فِي الْمَعْنَى نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ فِي التَّعْدِيَةِ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ:

حَمَلَتْ بِهِ فِي لَيْلَةٍ مَزْءُودَةٍ (?) ... كَرْهًا وَعَقْدَ نِطَاقِهَا لَمْ يُحْلَلْ

عَدَّى" حَمَلَتْ" بِالْبَاءِ، وَحَقُّهُ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ، كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ:" حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً (?) " [الأحقاف: 15]، وَلَكِنَّهُ قَالَ: حَمَلَتْ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى حَبِلَتْ بِهِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَشُدِّدَتِ النُّونُ مِنْ" هُنَّ" لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمِيمِ وَالْوَاوِ فِي الْمُذَكَّرِ." وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ" أَصْلُ اللِّبَاسِ فِي الثِّيَابِ، ثُمَّ سُمِّيَ امْتِزَاجُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِصَاحِبِهِ لباسا، لانضمام الْجَسَدِ وَامْتِزَاجِهِمَا وَتَلَازُمِهِمَا تَشْبِيهًا بِالثَّوْبِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:

إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَدَاعَتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

وَقَالَ أَيْضًا:

لَبِسْتُ أُنَاسًا فَأَفْنَيْتُهُمْ ... وَأَفْنَيْتُ بَعْدَ أُنَاسٍ أُنَاسَا

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَالُ لِمَا سَتَرَ الشَّيْءَ وَدَارَاهُ: لِبَاسٌ. فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا سِتْرًا لِصَاحِبِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ، كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتْرٌ لِصَاحِبِهِ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِمَاعِ مِنْ أَبْصَارِ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ: يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ هِيَ لِبَاسُكَ وَفِرَاشُكَ وَإِزَارُكَ. قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بن الخطاب:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015