تفسير القرطبي (صفحة 6812)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ فَسَتَعْلَمُ وَيَعْلَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: فَسَتَرَى وَيَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ. (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ أَيُّكُمُ الْمَفْتُونُ. أَيِ الَّذِي فُتِنَ بِالْجُنُونِ، كَقَوْلِهِ تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (?) [المؤمنون: 20] ويَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ (?) [الإنسان: 6]. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْأَخْفَشِ. وَقَالَ الرَّاجِزُ:

نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجِ (?)

وَقِيلَ: الْبَاءُ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَالْمَعْنَى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أَيِ الْفِتْنَةُ. وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْفُتُونُ، كَمَا قَالُوا: مَا لِفُلَانٍ مَجْلُودٍ وَلَا مَعْقُولٍ، أَيْ عَقْلٌ وَلَا جَلَادَةٌ. وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الرَّاعِي:

حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكُوا لِعِظَامِهِ ... لَحْمًا وَلَا لِفُؤَادِهِ مَعْقُولَا

أَيْ عَقْلًا. وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ حَذْفِ مُضَافٍ، وَالْمَعْنَى: بِأَيِّكُمْ فِتْنَةُ الْمَفْتُونِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ المجنون، أبا لفرقة الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْ بِالْفِرْقَةِ الْأُخْرَى. وَالْمَفْتُونُ: الْمَجْنُونُ الَّذِي فَتَنَهُ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: الْمَفْتُونُ الْمُعَذَّبُ. مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا حَمَّيْتَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (?) [الذاريات: 13] أَيْ يُعَذَّبُونَ. وَمُعْظَمُ السُّورَةِ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: الْمَفْتُونُ هُوَ الشَّيْطَانُ، لِأَنَّهُ مَفْتُونٌ فِي دِينِهِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ بِهِ شَيْطَانًا، وَعَنَوْا بِالْمَجْنُونِ هَذَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسَيَعْلَمُونَ غَدًا بِأَيِّهِمُ الْمَجْنُونُ، أَيِ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ مَسِّهِ الْجُنُونُ وَاخْتِلَاطُ العقل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015