تفسير القرطبي (صفحة 6789)

وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَهُ مُلْكُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَعَزَّ بِهَا مَنِ اتَّبَعَهُ وَذَلَّ بِهَا مَنْ خَالَفَهُ. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من إنعام وانتقام.

[سورة الملك (67): آية 2]

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (?)

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قِيلَ: الْمَعْنَى خَلَقَكُمْ لِلْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، يَعْنِي لِلْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ فِي الْآخِرَةِ وَقَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ إِلَى الْقَهْرِ أَقْرَبُ، كَمَا قَدَّمَ الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ فَقَالَ: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ «1» إِناثاً [الشورى: 49]. وَقِيلَ: قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَمَ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَوْتِ كَالنُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذَلَّ بَنِي آدَمَ بِالْمَوْتِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ (. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) لَوْلَا ثَلَاثٌ مَا طَأْطَأَ ابْنُ آدَمَ رَأْسَهُ الفقر والمرض والموت وإنه مع ذلك لو ثاب (. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ، لِأَنَّ أَقْوَى النَّاسِ دَاعِيًا إِلَى الْعَمَلِ مَنْ نَصَبَ مَوْتَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْآيَةُ أَهَمُّ «2» قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمَوْتَ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ وَلَا فَنَاءٍ صِرْفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ وَمُفَارَقَتُهُ، وَحَيْلُولَةٌ بَيْنَهُمَا، وَتَبَدُّلُ حَالٍ وَانْتِقَالٌ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ. وَالْحَيَاةُ عَكْسُ ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ جِسْمَانِ، فَجُعِلَ الْمَوْتُ فِي هَيْئَةِ كَبْشٍ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ إِلَّا مَاتَ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ أُنْثَى بَلْقَاءَ- وَهِيَ الَّتِي كَانَ جِبْرِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَرْكَبُونَهَا- خُطْوَتُهَا مَدَّ الْبَصَرِ، فوق الحمار ودون البغل،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015