تفسير القرطبي (صفحة 6626)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْعَرَبُ تَكُنِّي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْغَدِ. وَقِيلَ: ذَكَرَ الْغَدَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّاعَةَ قريبة، كما قال الشاعر:

وإن غدا للناظرين قَرِيبُ «1»

وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: قَرَّبَ السَّاعَةَ حَتَّى جَعَلَهَا كَغَدٍ. وَلَا شَكَ أَنَّ كُلَّ آتٍ قَرِيبُ، وَالْمَوْتَ لَا مَحَالَةَ آتٍ. وَمَعْنَى مَا قَدَّمَتْ يَعْنِي مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أَعَادَ هَذَا تَكْرِيرًا، كَقَوْلِكَ: اعْجَلِ اعْجَلِ، ارْمِ ارْمِ. وَقِيلَ التَّقْوَى الْأُولَى التَّوْبَةُ فِيمَا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ، وَالثَّانِيَةُ اتِّقَاءُ الْمَعَاصِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَيْ بِمَا يَكُونُ مِنْكُمْ. والله اعلم.

[سورة الحشر (59): آية 19]

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ) أَيْ تَرَكُوا أَمْرَهُ (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أن يعلموا لَهَا خَيْرًا، قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقِيلَ: نَسُوا حَقَّ اللَّهِ فَأَنْسَاهُمْ حَقَّ أَنْفُسِهِمْ، قَالَهُ سُفْيَانُ. وَقِيلَ: نَسُوا اللَّهَ بِتَرْكِ شُكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ. فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْعَذَابِ أَنْ يُذَكِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: نَسُوا اللَّهَ عِنْدَ الذُّنُوبِ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ

عِنْدَ التَّوْبَةِ. وَنَسَبَ تَعَالَى الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ فِي فَأَنْساهُمْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الَّذِي تَرَكُوهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَجَدَهُمْ تَارِكِينَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، كَقَوْلِكَ: أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا. وَقِيلَ: نَسُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ. (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْعَاصُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَاذِبُونَ. وَأَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ، أَيِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015