تفسير القرطبي (صفحة 6255)

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَافَرَ ضَمَّ الرَّجُلَ الْمُحْتَاجَ إِلَى الرَّجُلَيْنِ الْمُوسِرَيْنِ فَيَخْدُمُهُمَا. فَضَمَّ سَلْمَانَ إِلَى رَجُلَيْنِ، فَتَقَدَّمَ سَلْمَانُ إِلَى الْمَنْزِلِ فغلبته عيناه فنام ولم يهي لَهُمَا شَيْئًا، فَجَاءَا فَلَمْ يَجِدَا طَعَامًا وَإِدَامًا، فَقَالَا لَهُ: انْطَلِقْ فَاطْلُبْ لَنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا وَإِدَامًا، فَذَهَبَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (?) [اذْهَبْ إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقُلْ لَهُ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَضْلٌ مِنْ طَعَامٍ فَلْيُعْطِكَ [وَكَانَ أُسَامَةُ خَازِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَقَالَ أُسَامَةُ: مَا عِنْدِي شي، فَرَجَعَ إِلَيْهِمَا فَأَخْبَرَهُمَا، فَقَالَا: قَدْ كَانَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ بَخِلَ. ثُمَّ بَعَثَا سَلْمَانَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ شَيْئًا، فَقَالَا: لَوْ بَعَثْنَا سَلْمَانَ إِلَى بِئْرِ سُمَيْحَةَ (?) لَغَارَ مَاؤُهَا. ثُمَّ انْطَلَقَا يَتَجَسَّسَانِ هَلْ عِنْدَ أُسَامَةَ شي، فَرَآهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:] مالي أَرَى خُضْرَةَ اللَّحْمِ فِي أَفْوَاهِكُمَا [فَقَالَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا أَكَلْنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا لَحْمًا وَلَا غَيْرَهُ. فَقَالَ:] وَلَكِنَّكُمَا ظَلْتُمَا تَأْكُلَانِ لَحْمَ سَلْمَانَ وَأُسَامَةَ [فَنَزَلَتْ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. أَيْ لَا تَظُنُّوا بِأَهْلِ الْخَيْرِ سُوءًا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ ظَاهِرِ أَمْرِهِمُ الْخَيْرَ. الثَّانِيَةُ- ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا [لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالظَّنُّ هُنَا وَفِي الْآيَةِ هُوَ التُّهْمَةُ. وَمَحَلُّ التَّحْذِيرِ وَالنَّهْيِ إِنَّمَا هُوَ تُهْمَةٌ لَا سَبَبَ لَهَا يُوجِبُهَا، كَمَنْ يُتَّهَمُ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَدَلِيلُ كَوْنِ الظَّنِّ هُنَا بمعنى التهمة قول تَعَالَى:" وَلا تَجَسَّسُوا" وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ لَهُ خَاطِرُ التُّهْمَةِ ابْتِدَاءً وَيُرِيدُ أَنْ يَتَجَسَّسَ خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقق مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ. فَنَهَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: وَالَّذِي يُمَيِّزُ الظُّنُونَ الَّتِي يَجِبُ اجْتِنَابُهَا عَمَّا سِوَاهَا، أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ تُعْرَفْ لَهُ أَمَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَسَبَبٌ ظَاهِرٌ كان حراما واجب الاجتناب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015