تفسير القرطبي (صفحة 6013)

قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً. فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ" وَمَنْ يَعْشَ" بِفَتْحِ الشِّينِ، وَمَعْنَاهُ يَعْمَى، يُقَالُ مِنْهُ عَشِيَ يَعْشَى عَشًا إِذَا عَمِيَ. وَرَجُلٌ أَعْشَى وَامْرَأَةٌ عَشْوَاءُ إِذَا كَانَ لَا يُبْصِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

رَأَتْ رجلا غائب الوافدين ... مُخْتَلِفَ الْخَلْقِ أَعْشَى ضَرِيرَا (?)

وَقَوْلُهُ:

أَأَنْ رَأَتْ رَجُلًا أَعْشَى أَضَرَّ بِهِ ... رَيْبُ الْمَنُونِ وَدَهْرٌ مُفْنِدٌ خَبِلُ

الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، مِنْ عَشَا يَعْشُو إذا لحقه ما لحق الْأَعْشَى. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعُشُوُّ هُوَ النَّظَرُ بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ، وَأَنْشَدَ:

مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ (?)

وَقَالَ آخَرُ:

لَنِعْمَ الْفَتَى يَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... إِذَا الرِّيحُ هَبَّتْ وَالْمَكَانُ جَدِيبُ

الْجَوْهَرِيُّ: وَالْعَشَا (مَقْصُورٌ) مَصْدَرُ الْأَعْشَى وَهُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَيُبْصِرُ بِالنَّهَارِ. وَالْمَرْأَةُ عَشْوَاءٌ، وَامْرَأَتَانِ عَشْوَاوَانِ. وَأَعْشَاهُ اللَّهُ فَعَشِيَ (بِالْكَسْرِ) يَعْشَى عَشًى، وَهُمَا يَعْشَيَانِ، وَلَمْ يَقُولُوا يَعْشُوَانِ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَمَّا صَارَتْ فِي الْوَاحِدِ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا تُرِكَتْ فِي التَّثْنِيَةِ عَلَى حَالِهَا. وَتَعَاشَى إِذَا أَرَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَعْشَى. وَالنِّسْبَةُ إِلَى أَعْشَى أَعْشَوِيٌّ. وَإِلَى الْعَشِيَّةِ عَشَوِيٌ. وَالْعَشْوَاءُ: النَّاقَةُ الَّتِي لَا تُبْصِرُ أَمَامَهَا فَهِيَ تَخْبِطُ بيديها كل شي. وَرَكِبَ فُلَانُ الْعَشْوَاءَ إِذَا خَبَطَ أَمْرَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ. وَفُلَانٌ خَابِطٌ خَبْطَ عَشْوَاءٍ. وَهَذِهِ الآية تتصل بقول أول السورة" أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً" (?) [الزخرف: 5] أَيْ نُوَاصِلُ لَكُمُ الذِّكْرَ، فَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِلَى أَقَاوِيلِ الْمُضِلِّينَ وَأَبَاطِيلِهِمْ" نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً" أَيْ نُسَبِّبُ لَهُ شَيْطَانًا جَزَاءً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ" فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" قِيلَ فِي الدُّنْيَا، يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَيَبْعَثُهُ عَلَى الْحَرَامِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَيَأْمُرُهُ بالمعصية، وهو معنى قول ابن عباس.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015