يَوْمًا فَأُلْهِمْتُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا قَوْلَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ، فِيهَا ذُنُوبُهُمْ وَخَطَايَاهُمُ اسْتِهْزَاءً بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَالُوا:" رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ" فَأَوْجَعَهُ ذَلِكَ مِنِ اسْتِهْزَائِهِمْ، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَقَالَتِهِمْ، وَأَنْ يَذْكُرَ عَبْدَهُ دَاوُدَ، سَأَلَ تَعْجِيلَ خَطِيئَتِهِ أَنْ يَرَاهَا مَنْقُوشَةً فِي كَفِّهِ، فَنَزَلَ بِهِ مَا نَزَلَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَآهَا اضْطَرَبَ وَامْتَلَأَ الْقَدَحُ مِنْ دُمُوعِهِ، وَكَانَ إِذَا رَآهَا بَكَى حَتَّى تَنْفُذَ «1» سَبْعَةَ أَفْرِشَةٍ مِنَ اللِّيفِ مَحْشُوَّةٍ بِالرَّمَادِ، فَإِنَّمَا سَأَلَهَا بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ وَبَعْدَ ضَمَانِ تَبِعَةِ الْخَصْمِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ يَسْتَوْهِبُهُ مِنْهُ، وَهُوَ حَبِيبُهُ وَوَلِيُّهُ وَصَفِيُّهُ، فَرُؤْيَةُ نَقْشِ الْخَطِيئَةِ بِصُورَتِهَا مَعَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ صَنَعَتْ بِهِ هَكَذَا، فَكَيْفَ كَانَ يَحِلُّ بِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَبِعُصَاتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَأَهْلِ خِزْيِهِ، لَوْ عُجِّلَتْ لَهُمْ صَحَائِفُهُمْ فَنَظَرُوا إِلَى صُورَةِ تِلْكَ الْخَطَايَا الَّتِي عَمِلُوهَا عَلَى الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، وَمَاذَا يَحِلُّ بِهِمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهَا فِي تِلْكَ الصَّحَائِفِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ:" فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها" [الكهف: 49] فَدَاوُدُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَالْبُشْرَى وَالْعَطْفِ لَمْ يَقُمْ لِرُؤْيَةِ صُورَتِهَا. وَقَدْ رُوِّينَا فِي الْحَدِيثِ: إِذَا رَآهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْقُوشَةً في كفه قلق حتى يقال له ها هنا، ثُمَّ يَرَى فَيَقْلَقُ ثُمَّ يُقَالُ هَاهُنَا، ثُمَّ يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن.
يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ" أَيْ مَلَّكْنَاكَ لِتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَتَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الصَّالِحِينَ وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «2» الْقَوْلُ فِي الخليفة وأحكامه. مستوفى والحمد لله.