" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً" أَيْ قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَ" شُكْراً" نُصِبَ عَلَى جِهَةِ الْمَفْعُولِ، أَيِ اعْمَلُوا عَمَلًا هُوَ الشُّكْرُ. وَكَأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْعِبَادَاتِ كُلَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا الشُّكْرُ إِذْ سَدَّتْ مَسَدَّهُ، وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ" «1» [ص: 24] وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ" وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ". وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَأْوِيلِ قوله تعالى" أَنِ اشْكُرْ لِي" [لقمان: 14] أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّكْرِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَفَطَّرَ «2» قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا). انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الشُّكْرَ بِعَمَلِ الْأَبْدَانِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى عَمَلِ اللِّسَانِ، فَالشُّكْرُ بِالْأَفْعَالِ عَمَلٌ الْأَرْكَانِ، وَالشُّكْرُ بِالْأَقْوَالِ عَمَلُ اللِّسَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبَةً لِآلِ دَاوُدَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مخاطبة لمحمد صلى الله اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ وَتَحْرِيضٌ. وَسَمِعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْقَلِيلِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا الدُّعَاءُ؟ فَقَالَ الرَّجُل: أَرَدْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى" وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ". فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُلُّ النَّاسِ أَعْلَمُ مِنْكَ يَا عُمَرُ! وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُشْكَارَ «3» وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ الدَّرْمَكَ «4». وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الرَّمَادَ وَيَتَوَسَّدُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إِذِ الرَّمَادُ لَيْسَ بِقُوتٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَا شَبِعَ قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَخَافُ إِنْ شَبِعْتُ أَنْ أَنْسَى الْجِيَاعَ. وَهَذَا مِنَ الشُّكْرِ وَمِنَ القليل، فتأمله، والله أعلم.
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)