تفسير القرطبي (صفحة 490)

وَهُوَ قَوْلُهُ:" لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" وَعِبَادَةُ اللَّهِ إِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقُ رُسُلِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا أَنْزَلَ فِي كُتُبِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا تَعْبُدُونَ" قَالَ سِيبَوَيْهِ:" لَا تَعْبُدُونَ" مُتَعَلِّقٌ بِقَسَمٍ، وَالْمَعْنَى وَإِذِ اسْتَخْلَفْنَاهُمْ وَاللَّهِ لَا تَعْبُدُونَ، وَأَجَازَهُ الْمُبَرِّدُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ" لَا تَعْبُدُوا" عَلَى النَّهْيِ، وَلِهَذَا وَصَلَ الْكَلَامَ بِالْأَمْرِ فَقَالَ:" وقُومُوا، وقُولُوا، وأَقِيمُوا، وآتُوا". وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ مُوَحِّدِينَ، أَوْ غَيْرَ مُعَانِدِينَ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَالْمُبَرِّدُ أَيْضًا. وَهَذَا إِنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ" يَعْبُدُونَ" بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ: الْمَعْنَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ بِأَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَبِأَنْ يُحْسِنُوا لِلْوَالِدَيْنِ، وَبِأَلَّا يَسْفِكُوا الدِّمَاءَ، ثُمَّ حُذِفَتْ أَنْ وَالْبَاءُ فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ لِزَوَالِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي (?) ". قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أُضْمِرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ مُظْهَرًا، تَقُولُ: وَبَلَدٍ قَطَعْتُ، أَيْ رُبَّ بَلَدٍ. قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِخَطَأٍ، بَلْ هُمَا وَجْهَانِ صحيحان وعليهما أنشد سيبويه:

ألا أيها ذا الزاجري أخضر الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي (?)

بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، فَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ، وَالرَّفْعُ عَلَى حَذْفِهَا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً" أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَقَرَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالنَّشْءَ الثَّانِيَ- وَهُوَ التَّرْبِيَةُ- مِنْ جِهَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَلِهَذَا قَرَنَ تَعَالَى الشُّكْرَ لَهُمَا بِشُكْرِهِ فَقَالَ:" أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ (?) ". وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ: مُعَاشَرَتُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُمَا، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا، وَالدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ بَعْدَ مَمَاتِهِمَا، وَصِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي" الْإِسْرَاءِ (?) " إِنْ شَاءَ الله تعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015