تفسير القرطبي (صفحة 486)

الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِأَيْدِيهِمْ" تَأْكِيدٌ، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَتْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ"، وَقَوْلِهِ" يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ" وَقِيلَ: فَائِدَةُ" بِأَيْدِيهِمْ" بَيَانٌ لِجُرْمِهِمْ وَإِثْبَاتٌ لِمُجَاهَرَتِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّى الْفِعْلَ أَشَدُّ مُوَاقَعَةً مِمَّنْ لَمْ يَتَوَلَّهُ وَإِنْ كَانَ رَأْيًا لَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ:" بِأَيْدِيهِمْ" كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ دُونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَةً فِي كَتْبِ أَيْدِيهِمْ. الرَّابِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا التَّحْذِيرُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ وَالزِّيَادَةِ فِي الشَّرْعِ، فَكُلُّ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ أَوِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقَدْ حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ لَمَّا قَدْ عَلِمَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالَ: (أَلَا مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً) الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي. فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يُحْدِثُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدِّينِ خِلَافَ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّتِهِ أَوْ سُنَّةِ أَصْحَابِهِ فَيُضِلُّوا به الناس، وقد وقع ما حدره وشاع،. كثر وَذَاعَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. الْخَامِسَةُ- قوله تعالى:" لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا" وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَأْخُذُونَهُ بِالْقِلَّةِ، إِمَّا لِفَنَائِهِ وَعَدَمِ ثَبَاتِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ حَرَامًا، لِأَنَّ الْحَرَامَ لَا بَرَكَةَ فِيهِ وَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَتْ صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ رَبْعَةً أَسْمَرَ، فَجَعَلُوهُ آدَمَ سَبْطًا طَوِيلًا، وَقَالُوا لِأَصْحَابِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمُ: انْظُرُوا إِلَى صِفَةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَيْسَ يشبهه نعت هذا، وكانت للأحبار والعلماء رئاسة وَمَكَاسِبُ، فَخَافُوا إِنْ بَيَّنُوا أَنْ تَذْهَبَ مَآكِلُهُمْ ورئاستهم، فَمِنْ ثَمَّ غَيَّرُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:" فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ" قِيلَ مِنَ الْمَآكِلِ. وَقِيلَ مِنَ الْمَعَاصِي. وكرر الويل تغليظا لفعلهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015