تفسير القرطبي (صفحة 4845)

أَبْيَضَ رَقِيقٍ مِثْلِ الضَّبَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تِيهِهِمْ فَتَنْشَقُّ السَّمَاءُ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ تَعَالَى:" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ". (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) من السموات، ويأتي الرب عز وجل فِي الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، على ما يجوز أن يحمل عليه إتباعه، لَا عَلَى مَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتَشَقَّقُ سَمَاءُ الدُّنْيَا فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ثُمَّ تَنْشَقُّ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى تَنْشَقَّ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْكَرُوبِيُّونَ (?) وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:" وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا" أَيْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لِحِسَابِ الثَّقَلَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ السَّمَاءَ تَنْشَقُّ بِالْغَمَامِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ، فَبِتَشَقُّقِ الْغَمَامُ تَتَشَقَّقُ السَّمَاءُ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ انْتَقَضَ تَرْكِيبُهَا وَطُوِيَتْ وَنُزِّلَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى مَكَانٍ سِوَاهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ" وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ" بِالنَّصْبِ مِنَ الْإِنْزَالِ الْبَاقُونَ" وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ" بِالرَّفْعِ. دَلِيلُهُ" تَنْزِيلًا" وَلَوْ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ لَقَالَ إنزالا. وقد قيل: إن ننزل وَأَنْزَلَ بِمَعْنًى، فَجَاءَ" تَنْزِيلًا" عَلَى" نُزِّلَ" وَقَدْ قَرَأَ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو" وَنَزَّلَ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِيلًا". وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" وَأُنْزِلَ الْمَلَائِكَةُ" أُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ:" وَنُزِّلَتِ الْمَلَائِكَةُ". وَعَنْهُ" وَتَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) " الْمُلْكُ" مُبْتَدَأٌ وَ" الْحَقُّ" صِفَةٌ لَهُ وَ" لِلرَّحْمنِ" الْخَبَرُ، لِأَنَّ الْمُلْكَ الَّذِي يَزُولُ وَيَنْقَطِعُ لَيْسَ بِمُلْكٍ، فَبَطَلَتْ يَوْمَئِذٍ أَمْلَاكُ الْمَالِكِينَ وَانْقَطَعَتْ دَعَاوِيهِمْ، وَزَالَ كُلُّ مَلِكٍ وَمُلْكُهُ، وَبَقِيَ الْمُلْكُ الْحَقُّ لِلَّهِ وَحْدَهُ. (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أَيْ لِمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْأَهْوَالِ وَيَلْحَقُهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، وَهُوَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَخَفُّ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا فَهُوَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يسير. يقال: عسر يعسر، وعسر يعسر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015