تفسير القرطبي (صفحة 4587)

قوله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ 60 (" ذلِكَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ لَقُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ فَقَالُوا: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ، فَنَاشَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَلَّا يُقَاتِلُوهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا الْقِتَالَ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ وَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَحَصَلَ فِي أَنْفُسِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقِتَالِ فِي الشهر الحرام شي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَثَّلُوا بِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتَلُوهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَاقَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. فَمَعْنَى" مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ 60" أَيْ مَنْ جَازَى الظَّالِمَ بِمِثْلِ مَا ظَلَمَهُ، فَسَمَّى جَزَاءَ الْعُقُوبَةِ عُقُوبَةً لِاسْتِوَاءِ الْفِعْلَيْنِ فِي الصُّورَةِ، فَهُوَ مِثْلُ:" وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها 40" «1» [الشورى: 40]. وَمِثْلُ:" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ" «2» [البقرة: 194]. وَقَدْ تَقَدَّمَ. (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) 60 أَيْ بِالْكَلَامِ وَالْإِزْعَاجِ مِنْ وَطَنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ وَآذَوْا مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَخْرَجُوهُ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَكَّةَ، وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ. (لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ) 60 أَيْ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ بَغَوْا عَلَيْهِمْ. (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) 60 أَيْ عَفَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام وستر.

[سورة الحج (22): آية 61]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْتُ عَلَيْكَ مِنْ نَصْرِ الْمَظْلُومِ هُوَ بِأَنِّي أَنَا الَّذِي أُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَيْ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ عَبْدَهُ. وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" مَعْنَى يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ «3». (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يَسْمَعُ الْأَقْوَالَ وَيُبْصِرُ الْأَفْعَالَ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَلَا دَبِيبُ نَمْلَةٍ إِلَّا يعلمها ويسمعها ويبصرها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015