" وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «1» " [المائدة: 83]. فَهَذَا وَصْفُ حَالِهِمْ وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ، وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَالَ الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونِ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ حَالًا، وَالْجُنُونُ فُنُونٌ. رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ «2» فِي الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فقال: (سلوني لا تسألوني عن شي إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا) فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا «3» وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ [يَدَيْ «4»] أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ. قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا في سورة" الأنفال" «5» والحمد لله.
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْبُدْنَ) وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ:" وَالْبُدْنَ" لُغَتَانِ، وَاحِدَتُهَا بَدَنَةٌ. كَمَا يُقَالُ: ثَمَرَةٌ وَثُمُرٌ وَثُمْرٌ، وَخَشَبَةٌ وَخُشُبٌ وخشب. وفى التنزيل:" وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ" «6» وقرى:" ثُمْرٌ" لُغَتَانِ. وَسُمِّيَتْ بَدَنَةً لِأَنَّهَا تَبْدُنُ، وَالْبَدَانَةُ السِّمَنُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْمَ خَاصٌّ بِالْإِبِلِ. وَقِيلَ: الْبُدْنُ جَمْعُ" بَدَنٍ" بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالدَّالِ. وَيُقَالُ: بَدُنَ الرَّجُلُ (بِضَمِّ الدَّالِ) إِذَا سَمِنَ. وَبَدَّنَ (بِتَشْدِيدِهَا) إِذَا كَبِرَ وَأَسَنَّ. وَفِي الْحَدِيثِ (إِنِّي قَدْ بَدَّنْتُ) أَيْ كَبِرْتُ وَأَسْنَنْتُ. وَرُوِيَ (بَدُنْتُ) وَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى، لِأَنَّهُ خِلَافُ صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْنَاهُ كَثْرَةُ اللَّحْمِ. يُقَالُ: بَدُنَ الرَّجُلُ يَبْدُنُ بَدْنًا وَبَدَانَةً فَهُوَ بادن، أي ضخم.