تفسير القرطبي (صفحة 4521)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) هَذِهِ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ، أَيْ أَلَمْ تَرَ بِقَلْبِكَ وَعَقْلِكَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السُّجُودِ فِي" الْبَقَرَةِ"، (?) وَسُجُودُ الْجَمَادِ فِي" النَّحْلِ"»

." وَالشَّمْسُ" مَعْطُوفَةٌ عَلَى" مَنْ". وَكَذَا (وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ). ثُمَّ قَالَ: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) وَهَذَا مُشْكِلٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، كَيْفَ لَمْ يُنْصَبْ لِيُعْطَفَ مَا عَمِلَ فِيهِ الْفِعْلُ عَلَى مَا عَمِلَ فِيهِ الْفِعْلُ، مِثْلُ:" وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (?) "؟ [الإنسان: 31] فَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَكَانَ حَسَنًا، وَلَكِنِ اخْتِيرَ الرَّفْعُ لِأَنَّ الْمَعْنَى وَكَثِيرٌ أَبَى السُّجُودَ، فَيَكُونُ ابْتِدَاءً وَخَبَرًا، وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ:" وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ التَّذَلُّلَ وَالِانْقِيَادَ لِتَدْبِيرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ضَعْفٍ وَقُوَّةٍ وَصِحَّةٍ وَسَقَمٍ وَحُسْنٍ وَقُبْحٍ، وَهَذَا يَدْخُلُ فيه كل شي. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى تَقْدِيرِ: وَأَهَانَ كَثِيرًا حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، وَنَحْوَهُ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ" وَالدَّوَابُّ" ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:" وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" فِي الْجَنَّةِ" وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ". وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: (الْمَعْنَى وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الْجَنَّةِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وقال أبو العالية: ما في السموات نَجْمٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا شَمْسٌ إِلَّا يَقَعُ ساجد الله حِينَ يَغِيبُ، ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ فَيَرْجِعَ مِنْ مَطْلَعِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَوَرَدَ هَذَا فِي خَبَرٍ مُسْنَدٍ فِي حَقِّ الشَّمْسِ، فَهَذَا سُجُودٌ حَقِيقِيٌّ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَرْكِيبُ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ فِي هَذَا السَّاجِدِ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" يس" عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها" (?). [يس: 38]. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى السُّجُودِ لُغَةً وَمَعْنًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أَيْ مَنْ أَهَانَهُ بِالشَّقَاءِ وَالْكُفْرِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ الْهَوَانِ عنه. وقال ابن عباس: إن من تَهَاوَنَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ صَارَ إِلَى النَّارِ. (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ) يُرِيدُ أَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى النَّارِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ:" وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ" أي إكرام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015