تفسير القرطبي (صفحة 3926)

وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةِ آخَرَ، ثُمَّ تَمَكَّنَ الْآخَرُ مِنْ زَوْجَةِ الثَّانِي بِأَنْ تَرَكَهَا عِنْدَهُ وَسَافَرَ، فَاسْتَشَارَ ذَلِكَ الرَّجُلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْأَمْرِ فَقَالَ لَهُ:" أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". وَعَلَى هَذَا يَتَقَوَّى قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَمْرِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْخِيَانَةَ لَاحِقَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ رَذِيلَةٌ لَا انْفِكَاكَ عَنْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَهَا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِصَافِ مِنْ مَالٍ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَيْهِ فَيُشْبِهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَكَأَنَّ اللَّهَ حَكَمَ لَهُ، كَمَا لَوْ تَمَكَّنَ الْأَخْذُ بِالْحُكْمِ مِنَ الْحَاكِمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، نَسَخَتْهَا" وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ". الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ، فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا. وَمَنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِهِ، وَلَا يُتَعَدَّى قَدْرُ الْوَاجِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى «1»، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةُ- سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْإِذَايَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عُقُوبَةً، وَالْعُقُوبَةُ حَقِيقَةً إِنَّمَا هِيَ الثَّانِيَةُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَسْتَوِيَ اللَّفْظَانِ وَتَتَنَاسَبَ دِبَاجَةُ الْقَوْلِ، وَهَذَا بِعَكْسِ قَوْلِهِ:" وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «2» " وَقَوْلُهُ:" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «3» " فَإِنَّ الثَّانِيَ هُنَا هُوَ الْمَجَازُ والأول هو الحقيقة، قاله ابن عطية.

[سورة النحل (16): الآيات 127 الى 128]

وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ- قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ. وَجُمْهُورُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. أَيِ اصْبِرْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُعَاقَبَةِ بِمِثْلِ مَا عَاقَبُوا فِي الْمُثْلَةِ. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِلَى رحمة الله. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) ضَيْقٍ جَمْعُ ضَيْقَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

كَشَفَ الضَّيْقَةَ عنا وفسح «4»

طور بواسطة نورين ميديا © 2015