تفسير القرطبي (صفحة 3785)

" وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ «1» " وقال:" فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ «2» "، وَقَالَ:" وَلا يُكَلِّمُهُمُ «3» اللَّهُ"، وَقَالَ:" إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «4» ". قُلْنَا: الْقِيَامَةُ مَوَاطِنُ، فَمَوْطِنٌ يَكُونُ فِيهِ سؤال وكلام، موطن لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الْقِيَامَةُ مَوَاطِنُ، يُسْأَلُ فِي بَعْضِهَا وَلَا يُسْأَلُ فِي بَعْضِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ وَاسْتِعْلَامٍ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّ الله عالم بكل شي، وَلَكِنْ يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ فَيَقُولُ لَهُمْ: لِمَ عَصَيْتُمُ الْقُرْآنَ وَمَا حُجَّتُكُمْ فِيهِ؟ وَاعْتَمَدَ قطرب هذا القول. وقيل:" لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُكَلَّفِينَ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «5» ". وَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ أولى كما ذكر. والله أعلم.

[سورة الحجر (15): الآيات 94 الى 95]

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أَيْ بِالَّذِي تُؤْمَرُ بِهِ، أَيْ بَلِّغْ رِسَالَةَ اللَّهِ جَمِيعَ الْخَلْقِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِذَلِكَ. وَالصَّدْعُ: الشَّقُّ. وَتَصَدَّعَ الْقَوْمُ أَيْ تَفَرَّقُوا، وَمِنْهُ" يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ «6» " أَيْ يَتَفَرَّقُونَ. وَصَدَعْتُهُ فَانْصَدَعَ أَيِ انْشَقَّ. أَصْلُ الصَّدْعِ الْفَرْقُ وَالشَّقُّ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ يَصِفُ الْحِمَارَ وَأُتُنَهُ:

وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ ... يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ «7»

أي يفرق ويشق. فقوله:" فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ" قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ فَاصْدَعْ بِالْأَمْرِ، أَيْ أَظْهِرْ دِينَكَ، فَ" مَا" مَعَ الْفِعْلِ عَلَى هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَعْنَى اصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ، أَيِ اقْصِدْ. وَقِيلَ:" فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ" أَيْ فَرِّقْ جَمْعَهُمْ وَكَلِمَتَهُمْ بِأَنْ تَدْعُوَهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُمْ يَتَفَرَّقُونَ بِأَنْ يُجِيبَ الْبَعْضُ، فَيَرْجِعُ الصَّدْعُ عَلَى هَذَا إِلَى صدع جماعة الكفار.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015