تفسير القرطبي (صفحة 3708)

مَسْأَلَةٌ- لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَذَا فِي طَرْحِ وَلَدِهِ وَعِيَالِهِ بِأَرْضٍ مَضْيَعَةٍ اتِّكَالًا عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، كَمَا تَقُولُ غُلَاةُ الصُّوفِيَّةِ فِي حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَارَةَ لَمَّا غَارَتْ مِنْ هَاجَرَ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ إِسْمَاعِيلَ خَرَجَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَكَّةَ، فَرُوِيَ أَنَّهُ رَكِبَ الْبُرَاقَ هُوَ وَهَاجَرُ وَالطِّفْلُ فَجَاءَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنَ الشَّامِ إِلَى بَطْنِ مَكَّةَ، وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَمَتَهُ هُنَالِكَ وَرَكِبَ مُنْصَرِفًا مِنْ يَوْمِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا وَلَّى دَعَا بِضِمْنِ هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِيَةُ- لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَأْسِيسَ الْحَالِ، وَتَمْهِيدَ الْمَقَامِ، وَخَطَّ الْمَوْضِعِ لِلْبَيْتِ الْمُكَرَّمِ، وَالْبَلَدِ الْمُحَرَّمِ، أَرْسَلَ الْمَلَكَ فَبَحَثَ عَنِ الْمَاءِ وَأَقَامَهُ مَقَامَ الْغِذَاءِ، وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتَزَأَ بِهِ ثَلَاثِينَ بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنِي (?)، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سَخْفَةَ جُوعٍ (?)، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ إِنْ شَرِبْتَهُ تَشْتَفِي بِهِ شَفَاكَ اللَّهُ وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِشِبَعِكَ أَشْبَعَكَ اللَّهُ بِهِ وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِقَطْعِ ظَمَئِكَ قَطَعَهُ وَهِيَ هَزْمَةُ (?) جِبْرِيلَ وَسُقْيَا اللَّهِ إِسْمَاعِيلَ". وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مَوْجُودٌ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَسَلِمَتْ طَوِيَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مُكَذِّبًا، وَلَا يَشْرَبُهُ مُجَرِّبًا، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَهُوَ يَفْضَحُ الْمُجَرِّبِينَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ وَحَدَّثَنِي أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ الطَّوَافَ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَأَخَذَنِي مِنَ الْبَوْلِ مَا شَغَلَنِي، فَجَعَلْتُ أَعْتَصِرُ (?) حَتَّى آذَانِي، وَخِفْتُ إِنْ خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ أَنْ أَطَأَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَقْدَامِ، وَذَلِكَ أَيَّامُ الْحَجِّ، فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَدَخَلْتُ زَمْزَمَ فَتَضَلَّعْتُ»

مِنْهُ، فَذَهَبَ عَنِّي إِلَى الصَّبَاحِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: إِنَّ فِي زَمْزَمَ عَيْنًا فِي الْجَنَّةِ مِنْ قِبَلِ الرُّكْنِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015