تفسير القرطبي (صفحة 3587)

الْحُزْنَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ الْوَلْوَلَةُ وَشَقُّ الثِّيَابِ، وَالْكَلَامُ بِمَا لَا يَنْبَغِي وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبُّ". وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَهُوَ كَظِيمٌ) أَيْ مَكْظُومٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الْحُزْنِ مُمْسِكٌ عَلَيْهِ لَا يَبُثُّهُ، وَمِنْهُ كَظْمُ الْغَيْظِ وَهُوَ إِخْفَاؤُهُ، فَالْمَكْظُومُ الْمَسْدُودُ عَلَيْهِ طَرِيقُ حُزْنِهِ، قَالَ الله تعالى:" إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ" «1» [القلم: 48] أَيْ مَمْلُوءٌ كَرْبًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَكْظُومُ بِمَعْنَى الْكَاظِمِ، وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى حُزْنِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَظِيمٌ مَغْمُومٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَإِنْ أَكُ كَاظِمًا لِمُصَابٍ شَاسٍ ... فَإِنِّي الْيَوْمَ مُنْطَلِقٌ لِسَانِي

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ" فَهُوَ كَظِيمٌ" قَالَ: فَهُوَ مَكْرُوبٌ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" فَهُوَ كَظِيمٌ" قَالَ: فَهُوَ كَمِدٌ، يَقُولُ: يَعْلَمُ أَنَّ يُوسُفَ حَيٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ، فَهُوَ كَمِدٌ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكَمَدُ الْحُزْنُ الْمَكْتُومُ، تَقُولُ مِنْهُ كَمِدَ الرَّجُلُ فَهُوَ كَمِدٌ وَكَمِيدٌ. النَّحَّاسُ. يُقَالُ فُلَانٌ كَظِيمٌ وَكَاظِمٌ، أَيْ حَزِينٌ لَا يَشْكُو حُزْنَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَحَضَضْتُ قَوْمِي وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ ... والقوم من خوف المنايا كظم

[سورة يوسف (12): الآيات 85 الى 86]

قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أَيْ قَالَ لَهُ وَلَدُهُ:" تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ" قَالَ الْكِسَائِيُّ: فَتَأْتُ وَفَتِئْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْ مَا زِلْتُ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ" لَا" مُضْمَرَةٌ، أَيْ لَا تَفْتَأُ، وَأَنْشَدَ «2»:

فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لديك وأوصالي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015