تفسير القرطبي (صفحة 3573)

لِأَنَّهُمُ الْتَزَمُوا اسْتِرْقَاقَ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَكَانَ حُكْمُ السَّارِقِ عِنْدَ أَهْلِ مِصْرَ أَنْ يَغْرَمَ ضِعْفَيْ مَا أَخَذَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. مَسْأَلَةٌ- قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ" «1» أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ نَاسِخٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرَائِعِ، أَوْ لِمَا كَانَ فِي شَرْعِ يعقوب من استرقاق السارق، والله أعلم.

[سورة يوسف (12): آية 76]

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) إِنَّمَا بَدَأَ يُوسُفُ بِرِحَالِهِمْ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَالرِّيبَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِنْ بَدَأَ بِوِعَاءِ أَخِيهِ. وَالْوِعَاءُ يُقَالُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا، لُغَتَانِ، وَهُوَ مَا يُحْفَظُ فِيهِ الْمَتَاعُ وَيَصُونَهُ. (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) يَعْنِي بِنْيَامِينَ، أَيِ اسْتَخْرَجَ السِّقَايَةَ أَوِ الصُّوَاعَ عِنْدَ مَنْ يُؤَنِّثُ، وَقَالَ:" وَلِمَنْ جاءَ بِهِ" [يوسف: 72] فذكر فلما رأى ذلك إخوته نكسوا رؤوسهم، وَظَنُّوا الظُّنُونَ كُلَّهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا وَيْلَكَ يَا بِنْيَامِينُ! مَا رَأَيْنَا كَالْيَوْمِ قَطُّ، وَلَدَتْ أُمُّكَ" رَاحِيلَ" أَخَوَيْنِ لِصَّيْنِ! قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ: وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُهُ، وَلَا عِلْمَ لِي بِمَنْ وَضَعَهُ فِي مَتَاعِي. وَيُرْوَى «2» أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: يَا بِنْيَامِينُ! أَسَرَقْتَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالُوا: فَمَنْ جَعَلَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِكَ؟ قَالَ: الَّذِي جَعَلَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِكُمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُفَتِّشَ كان إذا فرغ من رحل رحل اسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَائِبًا مِنْ فِعْلِهِ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُسْتَغْفِرَ كَانَ يُوسُفُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُفَتِّشُهُمْ وَيَعْلَمُ أَيْنَ الصُّوَاعُ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُمْ، وَانْتَهَى إِلَى رَحْلِ بِنْيَامِينَ فَقَالَ: مَا أَظُنُّ هَذَا الْفَتَى رَضِيَ بِهَذَا وَلَا أَخَذَ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: وَاللَّهِ لَا نَبْرَحُ حَتَّى تُفَتِّشَهُ، فَهُوَ أَطْيَبُ لِنَفْسِكَ وَنُفُوسِنَا، فَفَتَّشَ فَأَخْرَجَ السِّقَايَةَ، وَهَذَا التَّفْتِيشُ مِنْ يُوسُفَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤَذِّنَ سَرَّقَهُمْ بِرَأْيِهِ، فَيُقَالُ: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015