تفسير القرطبي (صفحة 3524)

[سورة يوسف (12): آية 35]

ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)

فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) أَيْ ظهر للعزيز واهل مشورته" مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ" أَيْ عَلَامَاتِ بَرَاءَةِ يُوسُفَ- مِنْ قَدِّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ، وَشَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَحَزِّ الْأَيْدِي، وَقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ عَنْ لِقَاءِ يُوسُفَ- أَنْ يَسْجُنُوهُ كِتْمَانًا لِلْقِصَّةِ أَلَّا تَشِيعَ فِي الْعَامَّةِ، وَلِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. وَقِيلَ: هِيَ الْبَرَكَاتُ الَّتِي كَانَتْ تَنْفَتِحُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ يُوسُفُ فِيهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ مُقَاتِلٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ:" ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ" قَالَ: الْقَمِيصُ مِنَ الْآيَاتِ، وَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَطْعُ الْأَيْدِي مِنَ الْآيَاتِ، وَإِعْظَامُ النِّسَاءِ إِيَّاهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: أَلْجَأَهَا الْخَجَلُ مِنَ النَّاسِ، وَالْوَجَلُ مِنَ الْيَأْسِ إِلَى أَنْ رَضِيَتْ بِالْحِجَابِ مَكَانَ خَوْفِ الذَّهَابِ، لِتَشْتَفِيَ إِذَا مُنِعَتْ مِنْ نَظَرِهِ، قَالَ:

وَمَا صَبَابَةُ مُشْتَاقٍ عَلَى أَمَلٍ ... مِنَ اللِّقَاءِ كَمُشْتَاقٍ بِلَا أَمَلٍ

أَوْ كَادَتْهُ رَجَاءَ أَنْ يَمَلَّ حَبْسَهُ فَيَبْذُلُ نفسه. قوله تعالى: (لَيَسْجُنُنَّهُ) " لَيَسْجُنُنَّهُ" فِي مَوْضِعِ الْفَاعِلِ، أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنْ يَسْجُنُوهُ، هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهَذَا غَلَطٌ، لَا يَكُونُ الْفَاعِلُ جُمْلَةً، وَلَكِنَّ الْفَاعِلَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ" بَدا" وَهُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ بَدَا لَهُمْ بَدَاءً، فَحَذَفَ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَحَقَّ لِمَنْ أَبُو مُوسَى أَبُوهُ ... يُوَفِّقُهُ الَّذِي نَصَبَ الْجِبَالَا

أَيْ وَحَقَّ الْحَقُّ، فَحَذَفَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ثُمَّ بَدَا لَهُمْ رَأْيٌ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ، وَحَذَفَ هَذَا لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَحَذَفَ أَيْضًا الْقَوْلَ، أَيْ قَالُوا: لَيَسْجُنُنَّهُ، وَاللَّامُ جَوَابٌ لِيَمِينٍ مُضْمَرٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ فِعْلٌ مُذَكَّرٌ لَا فِعْلٌ مُؤَنَّثٌ، وَلَوْ كَانَ فِعْلًا مُؤَنَّثًا لَكَانَ يسجنانه،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015